المساء
مؤمن الهباء
تجربة الشيخ "دندح"
أمضيت ليلة مع الرعب والفزع وأنا انتظر اللحظة التي سأساق فيها إلي كتاب الشيخ الرهيب محمد طه. موسوماً بالفشل في حفظ القرآن. ومنتظراً أسوأ معاملة منه لتقويم هذا الفشل وإصلاحه. كانت هذه أول حالة من القلق الحقيقي تسيطر علي عقلي الصغير. وتجعلني أتمني الموت قبل أن أواجه مصيري عند هذا الشيخ الذي لا يذكر في أسرتي إلا موصوفاً بالعنف والشدة.
في الصباح ذهبت بصحبة قريبنا الوسيط إلي الشيخ وأنا ارتجف خوفاً وهلعاً. كنت أمني نفسي بكلمة واحدة تصدر منه يعلن فيها عدم قبولي عنده لخلافه القديم مع أبي. لكن توسلات قريبنا الكبير نجحت في التعمية عليه حتي صاح شاخطاً: "اترزع لما نشوف آخرة الدلع بتاع أهاليكم". أحسست ساعتها أن نهايتي اقتربت وأن الرجل سوف يقتلني. فقد كانت هيئته لا تبعث علي الاطمئنان أبداً. بل كانت أصعب من سمعته التي تسبقه.
كانت ملامحه حادة. وكلامه حاداً. ورائحة البيت كريهة منفرة. والأولاد يجلسون علي الأرض ويتزاحمون. كانوا أكثر مما رأيت عند الشيخ عبدالرافع أو الشيخ عبدالعظيم. ومن العجيب أن الشيخ كان يدير هذا الكتاب الكثيف رغم أنه لا يكاد يري. كان أقرب إلي الأعمي منه إلي البصير. وكان الأولاد الأشقياء يسخرون منه ويطلقون عليه "الشيخ دندح". بينما كان يحظي باحترام وتقدير من الرجال الكبار الذين يرون فيه معلماً حازماً لأولادهم حتي وإن اتهموه بالفظاظة والقسوة.
بعد اختبار قصير قرر الشيخ أن يبدأ معي من سورة الفاتحة ليعالج سوء حفظي. وبالفعل أمضيت في كتابه حوالي ستة شهور أكتب اللوح وأسمع القرآن يومياً وأنا في رعب دائم من الجريدة والفلكة. وخلال هذه الفترة أعدت حفظ ما يقرب من أربعة أجزاء من القرآن الكريم هي ما تبقي معي إلي الآن. أزيد عليها أحياناً بعضاً من الآيات الخاصة التي يشاء الله أن تصادفني في لحظات معينة فتحفر في صدري دون عناء. لكن سرعان ما أنساها ويبقي ما حفظته عند الشيخ محمد طه لا ينسي.
ثم توفي الشيخ في يوم مشهود. وكانت جنازته مهيبة جداً لم أر مثلها إلي الآن. فقد تم تجميعنا. نحن أبناء الكتاب. لنحمل المصاحف المفتوحة ونلتف حول النعش من كل ناحية نقرأ سورة يس وما تيسر من الآيات البينات. وبعد الشيخ تولي ابنه الشيخ عراقي مسئولية الكتاب. لكنه كان ضعيفاً فتسرب الأولاد رويداً رويداً. أما أنا فقد كنت قد تجاوزت الخامسة بقليل وبدأ الحديث عن دخولي المدرسة لولا أن سني كانت صغيرة. وكان أبي يتولي بنفسه تعليمي بعض دروس الحساب كل مساء. الجمع والطرح والضرب والقسمة والكسور الاعتيادية والعشرية. واتفق مع مسئولين في المدرسة الابتدائية كي يقبلوني بصفة ودية إكراماً له علي أن يخرجوني من الفصل عندما يأتي المفتشون. وكانت هذه احدي المشكلات التي تؤلمني نفسياً وتأثرت بها ربما إلي اليوم.
في السبت القادم حكاية أخري إن كان في العمر بقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف