نشوى الحوفى
من منكم لم يُرد قتل والده؟
جاءت وفاة الكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق لتكشف الكثير مما صرنا إليه. وبعيداً عن حالة النهش التى سيطرت على البعض فنسينا أن الإنسان إذا ما مات بات بين يدى ربه ولا يجوز عليه سوى الرحمة أياً كان فعله، إلا أن تلك الواقعة أوقفتنى أمام أزمة بلادى فى فكرها.
لم أكن من قرّاء الروائى أحمد خالد توفيق، ولكننى كنت أعلم حجم المساحة التى يحتلها بين جيل من القرّاء هجر أغلبيته أساتذة الأدب وكفر بمن أطلقنا عليهم «كبار الكتّاب»، وصارت له أيقوناته كما يحلو لهم القول. كان الرجل مترجماً وكاتباً لقصص الرعب، كما قدّم روايات اجتماعية عبّر فيها عن رؤيته. اختلفت معه ككاتب مقال لخلطه بين الرأى والمعلومة دون حرص أو إدراك لتأثير كلمته على جيل لم يعد يقرأ أو يتابع أو يحلل.
ولكن هالنى حجم الهجوم على رجل كان بيننا يكتب ويؤلف ويعبّر عن رأيه ولم يهتم بالرد عليه أحد. ثم، وبعدما مات ورأى الجميع حزن الكثير من الشباب عليه، أزعجهم ذلك وجلسوا يفتحون دفاتره ويقلبون فى سطورها ويهاجمونه، معلنين مبررات لا منطق لها لأنه لن يرد عليها!! مبررات لا تعنى لى سوى غياب البصيرة فى قراءة الواقع الذى نعيشه. فالرجل بات بين يدى الله، يحاسبه إن أخطأ أو يسامحه أياً كان فعله، وتلك قاعدة آمنت بها حتى مع أسامة بن لادن نفسه يوم أن مات. ثم أين كنتم من كتاباته التى جعلت منه أيقونة لدى جيل تثبتون كل يوم أنكم لا تعلمون عنه شيئاً؟ فادعاؤكم الجهل به لا يقلل من تأثيره، بل يؤكد غيابكم فى وعى جيل أثّر هو فيه. ثم إن إصراركم على تشويهه لا يؤدى إلا لتشبث مَن رأوا فيه أيقونة بفكره وكلماته، ويؤكد لهم أنكم تمحون كل مخالف فى رأى وكل معارض فى فكر بلا منطق.
وتذكرت تلك المحاضرة التى ضمتنى كمتحدثة مع الكاتب يوسف القعيد والكاتب أحمد مراد فى مؤتمر شرم الشيخ للشباب فى نوفمبر 2016. يومها بدأ الأستاذ يوسف حديثه بالقول إن شباب هذا الجيل يذكّرونه برواية الإخوة كرامازوف، وبالتحديد بالعبارة القائلة فيها «من منهم لم يُرد قتل والده؟». انتبهت للعبارة وقسوتها التى قادت المحاضرة إلى مسار أراد به كاتبنا يوسف القعيد أن يعبّر به عن رفض الجيل الشاب لكل ما يمثل سلطة الكبار بما فى ذلك الأب. وتحدّث الكاتب أحمد مراد فقال إنه لم يُرد قتل والده، ولكنه يؤمن بوجود موهوب أياً كان عمره، مشيراً إلى أن الجيل السابق لهم أدمنوا تلك العبارات التى جعلت هناك كاتباً كبيراً وآخر صغيراً. وافقت «مراد» فى مقولته عند بدء حديثى، وأضفت له موجهة حديثى للأستاذ يوسف القعيد بأننى لست معه فيما قال وأراها قسوة لا تتفهم فعلنا قبل رد فعلهم، فهؤلاء الشباب هم جيل عاش يُتم الأسرة رغم بقائها على قيد الحياة حينما ظن الكبار أن الهجرة للخليج وجمع المال أهم من المكوث مع الأبناء والعائلة وبناء علاقات وتكوين ذكريات، كما أن هؤلاء الشباب هم جيل سمع كلمة «الكاتب الكبير» و«السياسى الكبير» و«الناقد الكبير».. فتاه صغيراً وسط الكبار لا يعلم متى يصيبه الدور فى أن يكون كبيراً فى ظل كبار لا يريدون التخلى عن مكانة الصدارة لا فى السياسة وحدها ولكن فى كل المجالات.
يا سادة، لا تنهشوا فى من ذهب لربه يحاسبه، بل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.