الأهرام
يسرى عبد الله
أية مصالحة ومع من؟
عقب ثورة الثلاثين من يونيو انتابت الجماعة الإرهابية حالة من السعار، حرقت الكنائس، وأسالت الدماء، وأزهقت الأرواح، وشكلت سياقا من التحريض ضد الدولة المصرية وجماهير شعبها، واستمر مسلسل الإجرام المخزى وأخذ أشكالا متباينة فى الوجود، سواء عبر التصعيد فى سيناء، أو فى القاهرة، أو فى الأقاليم المصرية المختلفة، وبدأت شوكة الإرهاب تنكسر بعد حين، عبر التضحيات التى يقدمها القلب الصلب للدولة المصرية، غير أن موجة المصالحة مع المتطرفين تتعالى كل فترة، فتبدو مثل بالونة اختبار، أو صدى لضغوط غربية تتأسس على مجموعة من المماحكات النظرية من قبيل الإدماج والاستيعاب، وهما مفردتان أثيرتان فى قاموس الرئيس الأمريكى السابق أوباما والإدارة الأمريكية بشكل عام.

وعلى الرغم من خطل التصور الذى تحمله بعض الدوائر الغربية فيما يتعلق بالجرائم التى ارتكبتها جماعة الإخوان، وربما يفسر هذا لك عزيزى القارئ حالة المراوحة فى التصنيف الرجراج لها بين كونها جماعة إرهابية أم لا فى الغرب، وربما التشابكات التى تحملها الجماعة مع غيرها من التنظيمات الدينية ليست بخافية على عقل لبيب، خاصة فيما يتعلق بالانطلاق من مفاهيم عقائدية مطلقة، وتصورات أيديولوجية دوجمائية الطابع، واحتكار مطلق للحقيقة، وتصنيف مستمر للناس فى فسطاطى الإيمان والكفر، فضلا عن أمانى الخلافة وأوهامها.

وربما الانشغال بالموقف الذى يمثله المركز الأورو أمريكى على نحو عام، لا يجب أن يكون مظلة حائلة بين أن نبصر جيدا حقيقة هذه الجماعات وأدوارها المخربة فى التكريس للتخلف العام، ولا يجب أن نتجاهل أيضا تلك العلاقة الجدلية بين القوى الرجعية فى المجتمعات النامية وقوى الاستعمار الجديد فى العالم، وهذه العلاقة التى تتخذ فى عالمنا العربى شكلا مغايرا عن أمكنة أخرى فى العالم، بحكم هيمنة الموروث وسيطرته على الفضاء العام، وتوظيف بعض القوى الكبرى لهذه التيارات الدينية فى تفتيت العالم العربي، وشغله بهوياته الفرعية، الصغري، وبأنساقه الماضوية، التى تفضى إلى فخ انحطاط تاريخى يعادل الخروج من التاريخ ذاته، أو يتجاوزه بقليل.

وربما تبدو مشكلتنا المزمنة حقا فى غياب التصورات الكلية عن العالم، ولا أعنى الحراك الجزئى فى المواقف المختلفة، ولكن أعنى الرؤية الشاملة، فالجماعة التى خرج من رحمها كل متطرفى العالم، والتى سطت على الثورة المصرية فى يناير 2011، وسعت لتغيير الهوية الوطنية المصرية وصبغها بالطابع الأحادى المتأخون، وحاولت استدعاء المستعمر وراهنت على التدخل الغربى فى مصر، فى خيانة لا يمكن وصفها، لا يمكن أن تضمر خيرا للوطن الذى كسر شوكتها، أو للمؤسسات الوطنية التى دافعت عن التراكم الحضارى المصرى ببسالة حقيقية. إن المشكلة هنا تتصل بالأفكار الحاكمة للعنف باسم المقدس، للمداهنة والتقية ساعة أن يحتاج الأمر إلى ذلك، للخضوع والامتثال قليلا فى العلن، واستمرار الخسة والتآمر والاجتماعات التنظيمية سرا. إننا لا نعيد اختراع العجلة، ولن يستطيع أحد إيقاف حركة التاريخ فى اندفاعها صوب الأمام، فالجماعة التى لفظها المصريون عبر ثورة شعبية عارمة، ستصبح عودتها ضربا من العبث، إننا لا نحتاج فقط إلى تخلى الجماعات الإسلامية الراديكالية عن السلاح، لكننا نحتاج أيضا إلى أن تتخلى عن أفكارها التى تقتلنا، وتصوراتها التى تعود بنا عشرات القرون إلى الوراء.

إن نمط المراجعات الفقهية التى تمت للجماعات الانتحارية والتى أطلقت على نفسها مسمى الجهادية وتابعتها فى ذلك صحف مختلفة فى فترة التسعينيات من القرن الماضي، يبدو مختلفا فى سياقه عن اللحظة الراهنة، ففضلا عن تغلغل تصورات السلفية الجهادية داخل هذه الجماعات وعودة بعضها لممارسة نشاطها الإرهابى الأقرب لروحها التى تمجد الموت، وتكره الحياة، فإن العمليات الإرهابية التى صنعتها الجماعة الإرهابية وكتائبها والعنف المتواتر الذى أقدمت عليه، والتحريض المستمر ضد الدولة المصرية، واتهام كل من يقف ضد الأفكار الظلامية بالكفر، يجعلنا أمام جماعة تحيا فى عالمين، وتطرح خطابين باختصار، عالم من الحداثة يستلزم خطابا نظريا منمقا توجهه للدوائر الغربية، وللميديا التى اشترت جماعة الإخوان بتمويل من بعض دول الإقليم مساحات داخلها، أما العالم الآخر الذى تحيا فيه الجماعة فهو عالم القرون الوسطي، حيث يصبح التكفير منهجا، والسمع والطاعة طريقا، والخطاب الماضوى وسيلة للهيمنة على قواعدها الساذجة التى ترى فيها أملا وملاذا، ويبدأ الخطاب المطروح من قبل الجماعة يستمد وجاهته لدى قواعده من كونه خطابا عاطفيا شعبويا، يسعى إلى توظيف المقدس والمتاجرة الممنهجة بالدين، ولذا فإن إحدى آليات مجابهة هذه الأفكار يتمثل فى خلخلة هذا اليقين المستقر، وإفساح المجال العام أمام حرية التفكير والبحث والمساءلة لماض يقف فى قلب الظلام.

وبعد.. إن امتلاك آليات العقل النقدي، القائمة على الفرز والتأمل والمساءلة تفضى بنا إلى النظر لظاهرة الجماعات الدينية ومحاولة إدماجها القسرى فى بنية المجتمعات الإنسانية بوصفها قفزة فى الفراغ، تحتاج إلى تحول جذرى فى الأفكار والرؤى والتصورات التى استنامت للماضى واستسلمت للجاهز والموروث وأصبحت لعبة ضد شعبها وأمتها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف