نبيل عبد الفتاح
الأحزاب السياسية والجماعات الاحتجاجية والنشطاء وانتفاضة يناير الثورية الكبرى
جاءت التمهيدات الحركية للانتفاضة الجماهيرية الثورية في 25 يناير 2011، من خارج أطر الأحزاب السياسية الرسمية أو المحجوب عنها الشرعية القانونية، التي خضعت لعديد من القيود الأمنية والقانونية المفروضة عليها، وعلى المجال العام المحاصر. من هنا زاع وصف أنها أحزاب "مستأنسة"، وتمارس عملها من خلال الصحف التي تصدرها، واقتصار أنشطتها على مقارها الأساسية في العاصمة أساسًا، ومن ثم أصبحت وظيفتها الأساسية أنها علامة أو شارة على أن ثمة تعددية سياسية يقدمها النظام إعلاميا، وإلى الدول الغربية، وأحد أشكال تفريغ الغضب الاجتماعي والسياسي وتوزيعه، وأداة لكشف الأنشطة السياسية ومحركيها!
استكانت الأحزاب وقادتها لهذه الوضعية والقواعد العرفية الأمنية والسلطوية المنظمة لها، ومن ثم أدى ذلك إلى تفريغها من قواعدها الجماهيرية المحدودة أساسًا، وتحولت إلى جزء من مسرحية التعدد الحزبي في البلاد. من هنا اقتصرت الأنشطة على إبداء بعض الآراء في السياسة الحكومية، أو إصدار بعض البيانات، وغابت استراتيجيات التجنيد السياسي لأعضاء جدد لهياكلها. من ناحية أخرى ران عليها الجمود القيادي، وانحسار إطارها القاعدي الجماهيري، وأصبحت الأحزاب طاردة أكثر من كونها جاذبة لأعضاء جدد. هذا الكسل التنظيمي، وضعف الدينامية الداخلية للأحزاب السياسية المعارضة، بل وفي الحزب الوطني الحاكم، أدت إلى بحث بعض النشطاء عن أشكال جديدة للاحتجاج السياسي السلمي.
الجماعات الاحتجاجية التي تشكلت كنتاج لأزمة الأحزاب السياسية المعارضة، جاءت تعبيرًا عن استلهام بعض التجارب السياسية السلمية في بعض التجارب المقارنة على نحو ما تم في بعض بلدان أوروبا الشرقية السابقة بعد انهيار حائط برلين، وتفكك الإمبراطورية/ الكتلة السوفييتية، وهو ما أطلق عليها الثورات البرتقالية. حالة الاحتجاج المصري اكتسبت بعض معالمها من بعض الخصوصية المصرية، بل من بعض مفرداتها الساخرة التي تُعبر عن الضجر، على نحو ما تم تسمية الحركة المصرية من أجل التغيير بكفاية استعارة من مفردات لغة مقاعد المتفرجين ومشجعي كرة القدم احتجاجًا على بعض الممارسات السلطوية والإجراءات الأمنية المتشددة حال حضور رئيس الجمهورية مباريات حاسمة للفريق القومي في كأس إفريقيا، وطول ساعات الانتظار الممل في مقاعد المتفرجين، فكان التعبير التلقائي في المدرجات "كفاية حرام". استمدت المفردة الأولى دلالة على رفض مبدأ تمديد وتوريث السلطة معًا.
ساعدت الجماعات الاحتجاجية، الدور الذي لعبته المنظمات الحقوقية الدفاعية وتقاريرها الدورية وبياناتها عن انتهاكات حقوق الإنسان، لا سيما ذات الطابع السياسي والماسة بالحريات والحقوق السياسية. من ناحية أخرى، الاهتمام الإعلامي الغربي والإقليمي بالأوضاع السياسية في مصر، وكذلك متابعات الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجموعة الأوروبية لأوضاع حقوق الإنسان، وأوضاع الحريات العامة والمعتقلين، والأقباط، في تقاريرهم لا سيما الأمريكية حول حقوق الإنسان، والحريات الدينية في العالم، ومن بينها مصر. ناهيك بإعمال مبدأ المشروطية الدولية من الدول ومنظمات التمويل الدولية، والربط بين إعطاء القروض والمنح ومدى احترام الدولة حقوق الإنسان. في ضوء هذه المتغيرات المهمة استخدمت بعض المنظمات الدفاعية استراتيجية المناصرة الدولية في إطار عمليات التشبيك العولمية، في دعم الجماعات والحركة الاحتجاجية، وفي مواجهة أية انتهاكات توجه لها من قبل السلطة الحاكمة.
في ظل هذه السياقات المتغيرة أصبحت حركة الاحتجاج السلمي، في مركز استقطاب الاهتمام العولمي، وكذلك للشباب الغاضب على الجمود السياسي، وغياب الأمل في التغيير السياسي السلمي لقمة السلطة الحاكمة. هذا التغير السياقي، وفي أوزان الفاعلين خارج السلطة، أدى إلى تزايد تهميش الأحزاب السياسية المعارضة، التي وجد بعضها أن جماعات الاحتجاج السلمي، تشكل خصمًا من أدوارها -حزبا التجمع والوفد- بل وجد بعض أعضاء هذه الأحزاب في حركة كفاية أداة للتعبير عن مواقفهم الراغبة في إحداث تغيير سياسي في بنية السلطة الحاكمة.
من هنا غاب غالب الأحزاب السياسية المعارضة عن كل أشكال الاحتجاج السياسي الممهدة لأحداث يناير الثورية.
في أثناء الانتفاضة الجماهيرية الكبرى -ذات الروح الثورية- لم تكن الأحزاب قادرة على المشاركة الفعالة في عمليات التظاهر بوصفها أحزابا، لأن المزاج السياسي الشعبي كان رافضًا لها ولموروثها السلبي في الوعي السياسي والاجتماعي، ومن ثم بعض من شارك في التظاهرات أو التجمعات أو الاعتصامات شارك غالبهم على نحو شخصي كجزء من حركة الجموع الشعبية.
كانت الانتفاضة الكبرى، -ابنة الكتابات النقدية الصارمة للنظام، وبعض حراك الجماعات الاحتجاجية، وأحد انعكاسات دور الفواعل النتية وشبكاتها- تبدو بلا قيادة فاعلة وموحدة وتمتلك رؤية متماسكة لإدارة العمل الانتفاضي، بدت وكأنها مثل عالم الشبكات، حيث لا قيادة حاكمة أو ضابطة، ومن ثم أنتج هذا الوضع حالة حراك سياسي واسع بلا رأس قيادي، وتنظيمي ورؤية واستراتيجيات عمل قادرة على الفعل الجماهيري المنظم من أجل فرض برنامج للتغيير السياسي الشامل والكيفي في بنية الدولة والسلطة.
الحراك السياسي السائل، خضع لتلقائية الشارع والميدان ومزاجه السياسي المتغير والمتقلب والفكر اليومي -إذا شئنا استعارة تعبير جمال حمدان- وحركة الحشود غير المنظمة، ومن ثم أتاحت هذه الوضعية لبعض شخوص جماعات الاحتجاج السابقة على الحدث الكبير، أن تستأثر بلا رؤية بإبداء بعض آرائها السياسية، وبعض المجموعات اليسارية محدودة العدد، أن تقرض بعض شعاراتها غير الملائمة على وضعية عدم نضج الحالة الثورية تمامًا، وأن تفرض بعض هذه الشعارات العامة على بعض حركة الجموع الشعبية مع افتقارها لقدرات تنظيمية، نظرًا لمحدودية أعداد كوادرها، وافتقارها للرؤية المواكبة للحراك الجماهيري الكبير، فضلا عن أنها فوجئت بالحدث الضخم والأعداد الكبيرة من الجماهير المنتفضة، ولم يكن لديها سوى شعارات كبرى أيديولوجية الطابع بعضها استعير من تجارب سياسية أخرى.
بعض ممن أطلق عليهم "خبراء استراتيجيين" -في الإعلام المصري والعربي- جاؤوا بأسلحة شعاراتية حول الثورة، والثورة المضادة، والدولة العميقة وسواها ونظائرها من شعارات، مفارقة للواقع الموضوعي للنظام والدولة والسلطة وأجهزتها، والأهم الواقع الموضوعي للانتفاضة، ومن ثم كانت آراء غالبهم لا تعدو في أحسن الأحوال سوى انطباعات و"كلاشيهات" تجافي الواقع السياسي، ومن ثم أسهموا في إضفاء المزيد من الغموض والفوضى التحليلية، وعدم القدرة على بلورة تصورات ناضجة للحالة الانتفاضية وإمكانات تحولها إلى "ثورة" أو "شبه ثورة" شعبية وفق المصطلح وتجاربه التاريخية المقارنة.
الجماعات الاحتجاجية التي مهدت الواقع لانتفاضة يناير 2011، كانت أحد أصوات إثارة الضبابية، وفق بعض بياناتها، وتصريحات بعض "رموزها"، سواء في وصف ما تم وكأنه ثورة كاملة على سوية الأنماط التاريخية المعروفة الفرنسية، والروسية، والإيرانية، أو على النسق الأوروبي الشرقي المسماة بالثورات البرتقالية!، وذلك دونما فحص تحليلي للحالة الموضوعية للانتفاضة الكبرى، ومواقع القوة والضعف والهشاشة داخلها، إزاء أجهزة الدولة الداعمة للسلطة السياسية المنهارة، أو إزاء السلطة الفعلية في البلاد وأساليب عملها.
ظلت أصوات هؤلاء الأشخاص تعبيرًا عن خبرات سابقة تجاوزتها الحالة الانتفاضية، وفي ذات الوقت تصريحات بعضهم سعيًا وراء الظهور الإعلامي في الفضائيات العربية والدولية والمصرية الخاصة، وتوظيفهم لها في دعمهم الشخصي إزاء بعض زملائهم الآخرين، أو في حضورهم السياسي في قلب الحشود الجماهيرية. غالب هؤلاء وظف الحضور الإعلامي في مد جسور مع السلطة الفعلية في البلاد، وبعضهم ذهب وراء غواية أن يكون جزءًا من مشهد السلطة الفعلية وتشكلاته. لم يقتصر الأمر على بعضهم من كبار السن، وإنما امتد إلى بعض النشطاء من الشباب الذين خضع بعضهم لغواية الإعلام المرئي كأداة للظهور، وبعضهم الآخر خضع للعبة تشكيل ائتلافات ثورية تحت مسميات شتى، بعضها تمت صناعته ليكون أداة للسلطة الفعلية وأجهزة الدولة، ووصلت أعداد هذه المجموعات إلى ما يفوق ثلاثمئة جماعة وائتلاف ثوري صوري في الأساس. بعض الائتلافات الثورية التي تم تشكيلها، بعضها ذوو توجهات يسارية، وآخرون انتمى بعضهم لأحزاب سياسية جديدة، تشكلت بعد الحراك السياسي الكبير وبعض هؤلاء وأولئك لم يتعد دورهم سوى الدعوة للتظاهرات، وللحشد لما أطلق عليه "المليونيات" في ميدان التحرير. بعض النشطاء الشباب أغوتهم دعوات الحضور مع بعض قيادات السلطة الفعلية في البلاد، وذهب بهم الوهم الذاتي إلى أنهم القادة الفعليون للانتفاضة الجماهيرية، سواء في بعض المزايدات السياسية، أو في القبول ببعض ما تطرحه السلطة الفعلية. بصفة عامة كان دور النشطاء الشباب في إطار حركة الجموع الشعبية مهما، لكن دون رؤية تتأسس على حقائق القوة في الدولة وأجهزتها، وداخل حركة الشارع المنتفض، وحدودها، ومآلاتها، من ثم نستطيع القول إن الفواعل الشبابية بعضها تم تشظيه وتزريه، وتمت إدارته، وبعضها الآخر كان مصطنعًا، وآخرون ظلوا أسرى شعاراتهم وجمودهم ورفضهم السياسي وغضبهم وثورتهم، وعلى رأسهم جماعة 6 أبريل، والأناركيين وذلك وفق نمط تصوراتهم الأيديولوجية والسياسية.
كانت الطلائع الشبابية من النشطاء السياسيين أهم فاعل سياسي جديد في إطار حركة الجموع الشعبية المنتفضة.
السؤال: ما دور الإسلاميين في أعقاب 25 يناير 2011؟
ما دور الأحزاب في المرحلة الانتقالية الأولى والثانية؟
هذا ما سوف نتناوله في المقال القادم.