ايهاب الحضرى
الفراعنة أبرياء.. وحضارتنا ليست تهمة
لسنوات طويلة ظل الدفاع عن آثارنا من العبث مهمتي الأساسية، أقوم بها انطلاقا من اقتناع راسخ بأنها تُمثل جانبا رئيسيا من هويتنا، وخلال ذلك كنت أواجه أحيانا ردود أفعال غريبة في أوساط المحيطين بي، ممن يُفترض أنهم يملكون قدرا لا بأس به من الوعي، فمن بينهم من تفاعلوا بحماس مع معارك الدفاع عن الآثار الإسلامية، وصمتوا عندما كان تراث مصر القديمة هو محور الأزمة المثارة، غير أن بعضهم لم يكتفوا بالصمت، بل أعربوا عن دهشتهم لأنني أدافع عن »أصنام»! كانت تلك المعارك الهزلية أكثر إجهادا من مواجهاتي مع كبار المسئولين، لأنها تواجه عبثا لا يستند إلي منطق، بعد أن نجحت تيارات وافدة علي مدار سنين، في تجريف الوعي المصري، وتشكيك بعض أبناء الوطن في تاريخهم، اعتمادا علي مد فكري لا ينتمي إلي نسيج حضارتنا.
استحضرت كل ذلك وأنا أقرأ مقال الزميل الكبير عصام حشيش، الذي اعترض فيه بحسن نية علي وصف منتخبنا الوطني بالفراعنة، بعد أن »انتبه» إلي أن الله ذمهم في القرآن الكريم، في أكثر من سبعين موضعا! وهي وجهة نظر بالغة الخطورة، اعتمدت علي خطأ في الاستدلال إذا ما استعرنا لغة القانون، لأن القرآن الكريم لم يذم الفراعنة، بل تحدث عن »فرعون» وحيد بدون تعريفه، وهو الذي ارتبط بقصة موسي عليه السلام، وقد تكرر ذكره في كل المواضع التي عدّدها الزميل الكبير، وهو ما يعني أن القصة الدينية تتحدث عن حاكم واحد، اتسم حكمه بالظلم والجبروت، دون أن تحدد ماهيته بدقة، لكن التفسيرات التوراتية للتاريخ هي التي أسهبت في ذلك، وجاء بعض الدُعاة ليزيدوا الطين بلة، ويكيلوا الاتهامات للفراعنة كلهم، واعتمدوا مبدأ»السيئة تعم»، رغم أنه لا يمكن الاحتكام إليه في هذا السياق.
بدأ استخدام لقب الفرعون في الأسرة الثامنة عشرة، وتم إطلاقه علي حكّام عظماء ساهموا في مد روافد الحضارة المصرية، واستكمال ما بدأه ملوك مصر القديمة (الذين لم يكونوا فراعنة) قبل تلك الفترة بعشرات القرون، وبدلا من أن نسعي لتحليل الأسس التي اعتمد عليها أجدادنا ونحاول استكمال مسيرتهم، التقط البعض من الماضي نقاطا ملتبسة، واستخدموها كمنصات لإطلاق القذائف علي تاريخ يعتبره العالم فجر الضمير! فقدموا بذلك خدمات مجانية للصوص التاريخ والجغرافيا، رغم أن أي قراءة عابرة للنقاشات العلمية التي دارت يمكن أن تُغيّر رؤاهم.
لن أتحدث حول اجتهادات تُرجح أن فرعون ورد في القرآن كاسم وليس كلقب حاكم، ولن أتطرق إلي دراسات أكدت أن فرعون موسي كان ينتمي إلي الهكسوس الذين سيطروا علي جزء من مصر بفترة مُظلمة من الزمن، وهو الأمر الذي يمكن أن يبرر عدم وجود أي نقوش أثرية تتحدث عن قصة خروج بني إسرائيل، كما أنني لن أنعرض الآن لضوابط الربط بين النصوص الدينية والتاريخية، فكل هذه التفاصيل أكثر من أن يتم طرحها في مقال. لكن عندما نتحدث عن تاريخنا لابد أن نكون أكثر حذرا، كي لا نُقدم ماضينا هدية مجانية لمن يريدون سلبه منا، فإذا عجزوا حاولوا تشكيكنا فيه، بتحويل الحضارة الفرعونية إلي تهمة! وفي المقابل لابد أن نُرسخ قيمة مواجهة الفكر بالفكر، فالحاضر ينبغي أن يعتمد علي النقاش الحر، لنحمي مسيرتنا نحو المستقبل من ظهور محاكم تفتيش جديدة، يتبادل قادة التكفير مسئوليتها مع دعاة التخوين. دعونا نتعلم كيف نجادل الأفكار بالتي هي أحسن، ووقتها فقط سنفتخر بأننا فراعنة.