الأهرام
جمال عبد الجواد
الأولوية للاقتصاد فى فترة الرئاسة الثانية أيضا
فى فترة رئاسة عبدالفتاح السيسى الأولى كانت الأولويات واضحة، تفرض نفسها بقوة قاهرة: تثبيت الدولة وإصلاح الاقتصاد. لم يكن فى الأمر الكثير من ممارسة الحق فى الاختيار، فالإرهاب فرض نفسه كأخطر تهديد يواجه الأمة المصرية؛ وفى مواجهة العواصف الأمنية العاتية، داخليا وخارجيا، فرضت مهمة تثبيت الدولة نفسها فى وجه قوى التطرف والفوضى والتدخل الخارجى السافر التى اجتاحت الإقليم.

فى فترة رئاسة عبد الفتاح السيسى الأولى كان إصلاح الاقتصاد المصرى مهمة غير قابلة للتأجيل. فبعد سنوات اضطراب سياسي، أعقبت عقودا من الإفساد الاقتصادي، تخللتها محاولات خجولة للإصلاح، كان الوقت قد حان إجبارا لإصلاح حقيقي، يحول الاقتصاد المصرى من نظام اقتصاد الاستحقاقات المعممة، إلى نظام منضبط، تتوازن فيه التكاليف والعوائد.

فى اقتصاد الاستحقاقات المعممة تحولت الدولة إلى بقرة تتعاون جميع طبقات الأمة فى حلبها، كل حسب نفوذه، وحسب حجته، مرة بدعوى العدالة الاجتماعية، ومرة ثانية بدعوى المساواة، وثالثة بدعوى تشجيع الاستثمار، ورابعة بدعوى تشجيع الصادرات؛ المهم أن يتم انتزاع أى شيء من دولة شحت مواردها، وزادت التزاماتها وديونها.

فى نظام الاستحقاقات المعممة كان جميع الفرقاء سعداء بما يحصلون عليه، رغم ادعائهم غير ذلك، ورغم الشكوى التى لم يكفوا عن ترديدها، فالشكوى والمزايدة كانت هى الطريق لاغتصاب نصيب أكبر من الثروة العامة. لقد شاركت جميع طبقات الأمة فى مؤامرة وتواطؤ نادرين من أجل نهب الموارد العامة، لمصلحة جماعات مصالح ضيقة، اغتصبت الحق فى التحدث باسم الشعب. فكلما حصل الأغنياء على بعض الامتيازات، طالب مغتصبو حق التحدث باسم الفقراء بزيادة نصيبهم هم أيضا؛ وكلما شكا الفقراء من جشع الأغنياء، مطالبين الدولة بالتعويض، رفع الأغنياء صوتهم بالشكوى من كسل الفقراء وافتقادهم أخلاق العمل، وطالبوا الدولة بتعويضهم حتى يتمكنوا من المنافسة فى سوق عالمية مفتوحة؛ وكلما حاولت الدولة استرداد جزء أكبر من تكلفة إنتاج سلع مدعومة مثل وقود السيارات أو الكهرباء للاقتراب بسعرها من السعر العالمي، جأر مغتصبو حق الكلام باسم الطبقة الوسطى بالشكوي، مطالبين الدولة بأن تدفع للموظفين أجورا مثل تلك التى يتلقاها الناس فى بلاد الغرب الغنية أولا.

لقد تم وضع حد لهذا السفه، عبر إصلاح نظام صرف العملة، و دعم الطاقة، و الضرائب. كان هذا هو الطريق الذى سلكه الرئيس السيسى مجبرا، لأن تأجيل الإصلاح الاقتصادى الجذرى كان يدفع الاقتصاد المصرى إلى مصير شبيه بمصير الاقتصاد الفنزويلى الذى خربته سياسات الاستحقاقات المعممة على الطريقة اللاتينية.

المؤكد هو أن اقتصادنا اليوم فى وضع أفضل بكثير مما كان عليه عندما تولى السيسى الرئاسة قبل أربعة أعوام. لكن المؤكد أيضا أننا لم نقطع سوى الخطوات الأولى على طريق الإصلاح الاقتصادي، وأن طريقا طويلا للإصلاح والتنمية الاقتصادية مازال ينتظرنا، الأمر الذى يعنى أن الاقتصاد يجب أن يظل على قمة أولويات الرئيس فى فترة رئاسته الثانية. فأكثر من ربع المصريين مازالوا تحت خط الفقر، والمستورون من الناس، أغلبهم من الفقراء، حتى لو تجاوزوا حد الكفاية، فكم عاما من التنمية والإصلاح الاقتصادى يلزمنا لكى نوفر للملايين من الفقراء حياة كريمة؟ أما إذا أخذنا الزيادة السكانية فى الاعتبار، فإن سكان مصر يتزايدون بمعدل مليون ونصف المليون كل عام. فكم من المساكن الجديدة تلزم لإسكان هؤلاء؟ وكم من المزارع السمكية تلزم لوضع السمك على موائدهم؟ وكم فدانا يجب إضافتها للرقعة الزراعية كل عام من أجل إطعامهم؟ وكم من الاستثمارات بجب ضخها فى شرايين الاقتصاد لإيجاد فرص عمل لهم؟

علينا ألا نمل من تذكرة أنفسنا بهذه الحقائق المزعجة، لأن البعض منا يظن أننا قد انتهينا من الإصلاح الاقتصادى بمتاعبه، وأن لحظة الاحتفال بالإنجازات قد حانت. صحيح أننا سنبدأ فى جنى بعض ثمار الإصلاح فى شكل تراجع فى معدلات التضخم، وزيادة الاستثمارات، وتسريع معدل النمو. لكن انعكاس ذلك فى شكل تحسن كيفى يشعر به الناس جديا يحتاج لمزيد من الجهد والوقت والانضباط فى الإنفاق العام.

من الضرورى تأكيد هذه الأمور التى تبدو بديهية فى ظل أجواء يدعو فيها البعض إلى اتباع سياسة خارجية توسعية، بطريقة توحى بالاسترخاء والتخلى عن الحذر والوفرة. ومن الضرورى تأكيد هذه البديهيات فى وقت تجاوز فيه برنامج الإصلاح الاقتصادى المتفق عليه مع صندوق النقد الدولى منتصفه، ولم يتبق سوى عام أو نحو ذلك قبل أن ينتهى تنفيذ هذا البرنامج بشكل كامل، وهى مناسبة تغرى بالتخلى عن الانضباط المالي، والعودة لسياسات الإنفاق العام غير المحسوب، ولنا فيما حدث فى النصف الثانى من التسعينيات عبرة. فبعد أن أنجزنا بنجاح برنامجا مماثلا مع صندوق النقد الدولى فى النصف الأول من التسعينيات، لعب برؤوسنا الحديث المبهج عن ذلك النمر الاقتصادى الصاعد على ضفاف النيل، فدخلنا فى النصف الثانى من التسعينيات فى نفق الاسترخاء المالى والإنفاق غير الضروري، ودخلنا فى أزمة اقتصادية، احتجنا لعبورها ما يقرب من عشر سنوات، كانت هدرا ووقتا ضائعا لم يعد لدينا منه الكثير.

لسنوات طويلة تمتع كل فريق من جماعات المصالح بحق الفيتو على أى إصلاح اقتصادى يستوجب تحمل بعض من التكلفة، وكانت النتيجة تأجيل أى إصلاح جدي. حرمان جماعات المصالح من حق الفيتو على الإصلاح الاقتصادى كان ضروريا لتنفيذ برنامج الإصلاح الحالي. وفى الوقت الذى نتطلع فيه لمبادرات رئاسية تفتح المجال العام، فإن الإصلاح السياسى يجب ألا يعيد لجماعات المصالح حق الفيتو ضد الإصلاح الاقتصادي. فالاقتصاد مازالت له الأسبقية على الأولويات الأخري، ودون تحقيق نمو اقتصادى حقيقى وكبير ومستدام لن يكون ممكنا تحقيق ديمقراطية حقيقية أو اتباع سياسة خارجية نشيطة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف