أمال عثمان
أوراق شخصية الأمير الشاب.. والرهان علي التغيير
قفزات مدهشة يحققها الأمير الشاب محمد بن سلمان نحو المستقبل، فاقت كل توقع أو خيال، فلم يكن أحد يتصور سرعة التحول المدهش في دولة كبيرة بحجم المملكة العربية السعودية، أو حجم تلك الصحوة المذهلة التي حدثت خلال هذه الفترة الزمنية الوجيزة، وأن نري بين ليلة وضحاها الانفتاح والحراك الكبير الذي طرأ علي مجتمع ظل عقودا طويلة مكبلا بأغلال التقاليد العقيمة، والأفكار الوهابية المتشددة.
لقد قررت القيادة السعودية أن تسابق الزمن، وتخوض "ماراثون " نحو الغد، موقنة أن العلم والثقافة والفنون هي سلاح الأوطان الفعال للقضاء علي الأفكار المتطرفة والإرهاب، وأن الحقوق والحريات ومحاربة الفساد تمثل القاعدة الراسخة لبناء دولة حديثة، قادرة علي الوقوف بثبات وثقة في غمار عالم يتشكل من جديد، ليس علي خارطته مكان للتخلف والجهل والانغلاق، ولا بديل فيه عن ملاحقة الثورة العلمية والمعرفية والتكنولوجية.
كما أدركت أن الحداثة والمدنية والتقدم لا تعني بناء الصروح الضخمة، وإنشاء المدن الجديدة والمباني الحديثة والجسور والأنفاق والطرق السريعة فحسب، وإنما بتطوير الوعي والفكر المجتمعي، وفتح قنوات للتواصل الإنساني، وتهيئة بيئة محفزة للطاقات الإبداعية الخلاقة، وأن العنصر البشري مفتاح وأساس لكل نجاح، والثروة الحقيقية للأمم، وأن تنمية رأس المال البشري تعد أعلي درجات الاستثمار، والقاعدة الرئيسية لرفاهية الشعوب وغناهم، فكل الموارد تتقلص وتنضب وتتناقص قيمتها عدا المورد البشري ترتفع قيمته ويتزايد ثمنه.
وقد انعكست تلك الأفكار والمبادرات الطموحة علي القرارات الجريئة، والخطوات التي اتخذها ولي العهد السعودي بجسارة وشجاعة وجرأة لافتة، لدفع المجتمع باتجاه الاعتدال والتحرر من الأفكار المتشددة والتعقيدات الاجتماعية، وتقليص قبضة السلطات الدينية، وسيطرة رجال الدين، ولمسنا ذلك من النقلة النوعية التي حققها في مجال حقوق المرأة والمساواة التي سمحت للمرأة السعودية لأول مرة بقيادة السيارات، وما شاهدناه في الفترة الماضية من تحولات في المجالات والمسارات العلمية والثقافية والفنية، أدت إلي فتح دور العرض السينمائية، وإقامة الحفلات الموسيقية والغنائية، وإنشاء المدن الترفيهية والسياحية، والمشروعات الاقتصادية التي تعتمد علي مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحيوية والصناعات المتطورة.
لذا لم يكن غريبا أن نري الاتفاق الذي وقعه وزير الثقافة والإعلام السعودي "عواد العواد"، مع نظيرته الفرنسية "فــرنــســواز نـسـين" لإنشاء "دار أوبرا"، أوركسترا سيمفوني وطني، وتبادل الخبرات في مجالات السينما والمسرح والموسيقي، ولم يكن مستبعدا أن تشارك السعودية رسميا في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، من خلال جناح للمجلس السعودي للأفلام في سوق المهرجان، ووضع خطة لاشتراك تسعة أفلام قصيرة تم إنتاجها في العامين الأخيرين، لمخرجين سعوديين بــدأوا الحركة السينمائية الشابة منذ عدة سنوات.
وفي المقابل انعكس الاهتمام الفرنسي بتعزيز الحضور السينمائي السعودي من خلال عرض رسمي لفيلم روائي طويل في مهرجان كان الـ 71 لأول مرة، والفيلم استلهم موضوعه من الثقافة السعودية اثنان من الكتاب السعوديين، والإخراج للأسترالي أندرو لانكستر، وأنتجه مخرج الأفلام القصيرة السعودي عبد الله العياف.
وقد استوقفني ما قاله وزير الثقافة والإعلام السعودي في المؤتمر الصحفي، حول تلك الخطوة التي يري أنها ليست استعراضية، وإنما تأتي في إطار دعم بلاده للمواهب ومنحها الفرصة، والتعرف علي صناعة الأفلام من خلال أكبر حدث سينمائي في العالم، وفي رأيي أن المملكة تسعي بذلك إلي عدم الاعتماد علي استيراد الثقافة المعلبة، أو استهداف المنظرة والاستعراض والتباهي، كما حدث في دويلة قطر، وإنما تستهدف بناء قدرات ومواهب خلاقة تشكل القوة الناعمة في المجتمع السعودي، وتهيئة مناخ يفرز إبداعات ثقافية وأدبية وفنية حقيقية.
لقد رأت "جريدة لوبوان" الفرنسية أن الأمير محمد بن سلمان بات بمثابة "مفتاح الشرق الأوسط"، ووصفت لقاءه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه لقاء زعيمين شابين يطمحان لإحداث تغيرات كبري في بلديهما.
أن ما ينجزه الأمير الشاب لاستعادة الإسلام الوسطي يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن إرادة التغيير حين تتوافر لدي قيادة مخلصة تحقق المعجزات، وأن الرهان علي البشر هو مفتاح كل نجاح، والمعيار الحقيقي للتقدم والنهوض..حقا إنه يسطر صفحات جديدة من تاريخ المملكة، ويرسم خريطة مستقبل لاقتصاد ما بعد النفط في السعودية.