د. سليمان عبد المنعم
«الوطنية المصرية».. نقاش الحقائق والمخاوف (2/5)
يصعب القول إن الأحزاب والقوى السياسية الجديدة فى أوروبا ذات التوجهات اليمينية المتطرفة نماذج جادة أو تعكس رؤى فكرية أو أيديولوجية عميقة لمفهوم “الدولة الوطنية”، فهى أقرب إلى خليط من الشعبوية ومعاداة الأجانب وإحياء المشاعر والغرائز العنصرية الراقدة تحت جلود عوام الناس من الفقراء والعاطلين عن العمل وغير المتعلمين. هذا مشهد بعيدٌ تماماً عن الوطنية السلطوية الصينية مثلاً، ومن المبالغة الاعتقاد أن ثمة تماهياً بينها وبين الوطنية المصرية التى لم تتبلور بعد أيديولوجيتها فى تجذير فكرى وسياسى. السؤال إذن لماذا يتوجس البعض من الوطنية المصرية؟ وهل المخاوف التى تثيرها الوطنيات المتطرفة السابقة أو المعاصرة تسرى بالضرورة على الوطنية المصرية؟
نتحفظ منهجياً على مقارنة الوطنية المصرية بالأنظمة الوطنية العنصرية التى قامت فى حالات تاريخية محددة بتوظيف المشاعر الوطنية للناس فى شن (حروب عدوانية) خارج حدودها كما فى تجربتى ألمانيا النازية واليابان الفاشية فيما مضى. مثل هذا التوظيف العدوانى والعنصرى ليس حجة بذاته على الشعور الوطنى النقى. كما أن هذا التوظيف ليس هو واقع الحال دائماً فى كل “الوطنيات” الأخرى. إذا كانت هناك نظم رفعت شعار “نموت نموت ويحيا الوطن” فإن الوطنية المستنيرة العاقلة يمكنها أن ترفع شعار “نعيش نعيش ويحيا الوطن”. ليس ثمة ما يعيب الوطنية التى تُعلى مشاعر الانتماء الوطنى والطموح القومى وتستثير روح التنافسية مع الأمم الناجحة الأخرى. والحقيقة أن معظم الدول المتقدمة فى عالم اليوم تختزن بعداً وطنياً عميقاً يتجاوز الشوفينية أحياناً إلى حد الأنانية لكن الفارق أنهم لا يغنون ولا يصرخون كثيراً لوطنيتهم مثلنا. ثم ان المكوّن الحقوقى والحرياتى فى هذه المجتمعات كفيل بضبط أى تجاوزات فى التوظيف السياسى للوطنية. التخوّف الأساسى لدى البعض من نموذج “الدولة الوطنية” التى تتماهى مع القومية والشعبوية والشوفينية أن الممارسات التاريخية للأنظمة الوطنية لم تجلب لشعوبها وللإنسانية كلها سوى الدمار والشقاء لأنها قدّمت “الوطن” كفكرة مجازية على حساب “المواطن” أو الإنسان، وطالبت الناس بالتضحية العمياء. تصح هذه الرؤية فى سياقها التاريخى فى بعض الحالات لكن تعميمها وتحويلها إلى خلاصات ونتائج أمر يحتاج إلى مراجعة.
البعض فى بلادنا ينتقد الوطنية كفكرة ذات جذور عنصرية، وهناك من يرى أن الخطأ فيها يكمن فى الممارسة لا فى النظرية، أشارك الرأى الأخير وأبنى عليه وأقول إذا كان الأمر كذلك فدعونا نناقش النظرية ونضيف إليها ونقوم بواجب المراجعة والتصحيح. أما الممارسة فليست حجة على الفكرة، وبالتأكيد ليست مسؤوليتنا نحن كأصحاب فكر أو رأى. بالعموم لا يجب أن تجعلنا الذكريات المريرة لبعض الممارسات العنصرية لأنظمة سياسية رفعت راية الوطن أسرى لعقدة “الوطنية”. ليس ثمة ما يمنع إذن من أن نربى أطفالنا على الولاء للوطن كما يفعل الناس فى اليابان والصين وكوريا الجنوبية فى مدارسهم، وألا نختزل تضحية المواطن من أجل الوطن فى الموت بدلاً من العمل والتضامن والنظام والتقشف والاعتماد على الذات.
تخوف آخر من نموذج “الدولة الوطنية” مؤداه أن المطالب الديمقراطية والحقوقية تحتل ترتيباً متأخراً فى سلم أولوياتها، وأن هذا التغيير فى الأولويات يعنى أن يكون لحقوق الوطن أولوية تتقدم على حقوق المواطن لا سيّما حقوقه السياسية. وهذه هى المعضلة التى تواجه الجميع. وابتداء فليس فى الحديث عن حقوق الوطن أو المجتمع بدعة لأن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان نفسها تعترف بما يمكن تسميته بحقوق المجتمعات أو الشعوب مثل الحق فى تقرير المصير، والحق فى التنمية، والحق فى الاستغلال الحر للموارد الطبيعية، بل وبحقوق كونية لشعوب الإنسانية مجتمعة مثل الحق فى السلام، والحق فى حماية البيئة الطبيعية. وهذه تمثل الأجيال الحديثة من حقوق الإنسان بخلاف حقوق الإنسان الفرد الأقدم والأكثر تجذراً. أما تخوف البعض من تكريس دولة الفرد فهذا تخوف يجب مناقشته بهدوء.
تاريخ مصر فى العقود السبعة الأخيرة هو نموذج لدولة الفرد، هذا ليس تبريراً أو تسويغاً لكنه إقرار بحقيقة أن ذاكرتنا الديموقراطية قد تآكلت خلال هذه العقود وأننا ربما نحتاج إلى نفس الفترة تقريباً لكى نستعيد هذه الذاكرة. صحيح أننا لم ننس (القيم الديمقراطية) ذاتها لكننا نسينا (السلوكيات الديمقراطية) ولديّ على ذلك دليلان أولهما أنه فى أرقى المؤسسات المفترض كونها علمية وتنويرية مثل الجامعات لا توجد سلوكيات ديمقراطية لدرجة أن تشكيل مجالس الكليات يستبعد نحو 80% من عموم الهيئة التدريسية. وأنه من النادر تماماً أن ينعقد هذا المجلس فى هيئة مؤتمر علمى موسّع يضم كافة أعضاء هيئة التدريس مرة واحدة على الأقل سنوياً كما ينص قانون تنظيم الجامعات. الدليل الثانى أن كل الأحزاب المصرية التى ظهرت بقرار من الرئيس السابق أنور السادات كانت فى عمومها وبلا مبالغة أحزاب الفرد الواحد فيما عدا الاستثئناءات أو الاختراقات. حتى الرئيس السابق مرسى أول رئيس جاء بانتخابات حرة قيل إنه صرّح ذات مرة بأن التيار الإسلامى جاء ليحكم خمسمائة عام!! فإذا كان هذا هو “سلو بلدنا” كما نقول بالعامية خلال سبعين عاماً فنحن بحاجة لأن نخلق “سلو بلدنا” جديداً فى سلوكيات ديمقراطية. لكن ثمة رؤية مخالفة جديرة هى أيضاً بالنقاش.