سألت الرفاق الظراف اللطاف من قبيلة جيل الصحفيين الشباب الذين يعدهم ويجهزهم لرحلة الشقاء الصحفية.. رفيق الطريق نقيب الصحفيين العزيز عبد المحسن سلامة.. ويجهزهم بالعلم والخلق الزميل سامح عبد الله مدير معهد الصحافة الاقليمى للدخول إلى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة.. وهم ملتفون من حولى فى مكتبي: هل أكمل معكم حكايتى مع رحلة العشرة أيام فى الجنة.. أم أصحبكم فى رحلة بحرية عجيبة مع سفينة الأبحاث الروسية فى البحر الأبيض التى اسمها اكتيولوم.. بصحبة إنسان عزيز تحين ذكراه هذه الأيام هو رفيق الدرب والطريق عباس مبروك المحرر العلمى للأهرام الذى لا يتكرر والذى أنقذ بحق وصدق حياة زملاء لنا نزل عليهم سهم الله وكادوا يفقدون حياتهم.. فأخرجهم من حافة الموت إلى نعيم الحياة؟
قالوا: هو أولى فى ذكراه أن تحدثنا عنه..
قلت: سأحدثكم عن أغرب رحلة صحبته فيها فوق باخرة أبحاث روسية جاءت تمسح قاع البحر الأبيض بحثا عن كل ما هو غريب وعجيب فى عالم البحار.. وقد كتبت عنها فى كتابي: أيام فى القلب!
<><
قال لى رفيق رحلة العمر الصحفية الصديق عباس مبروك رئيس القسم العلمى بالأهرام.. أيام مجده الصحفي: عندى لك مفاجأة مذهلة!
قلت: ما أكثر مفاجآتك يا عم عباس!
قال وهو يثبت عينيه فى عيني: رحلة بالباخرة من إسكندرية إلى بيروت لن تكلفنا مليما واحدا.. ابسط يا عم!
قلت: إمتي؟
قال: غدا نذهب بالديزل إلى الاسكندرية ثم نركب الباخرة فى المساء.. قلت إيه؟
قلت له مداعبا: ودى حاجة عايزة قوالة يا عم عباس.. طبعا موافق..
وكعادتنا فى سفرياتنا أيامها خارج القطر.. حضرنا جوازات السفر وأخذنا بدل السفر دولارات عدا ونقدا... وجهزنا الحقائب وتوكلنا على الله وركبنا أول ديزل مسافر مع أول خيوط الصباح إلى الاسكندرية..
فى محطة سيدى جابر نزلت ضاحكا مستبشرا برحلة فى البحر الأبيض المتوسط لم تخطر على البال ولا على الخاطر...
ولكن صديق العمر بدأ يهمس فى أذنى بحزمة من التنازلات.. واحدا بعد الآخر.... بقوله:
ــ على فكرة يا عم عزت الباخرة اللى حانركبها باخرة روسية.. ومش باخرة ركاب.. لأ... دى سفينة أبحاث بتمسح قاع البحر الأبيض بحثا عن كنوز معدنية خافية فى الأعماق..
قلت لعباس ضاحكا: روسية.. هندية.. انشالله تكون سفينة اغريقية أو رومانية من سفن يوليوس قيصر نفسه.. المهم اننا حنسافر فى رحلة بحرية لم تخطر على بالنا يوما.
قال ونحن نركب تاكسى إلى ميناء الاسكندرية حيث ترسو الباخرة: بس فيه حاجة تانية ماقولتهاش لك!
قلت: إيه يا تري.. مخبى إيه يا عباس.. أنا عارف مقالبك؟
قال: موش مقلب بالمعنى الدقيق.. السفينة سفينة علمية لكشف أعماق البحار واسمها اكتيولوم وحجزوا لنا حجرة واحدة أنا وأنت بسريرين..
قلت: أمال كنت فاكر فى سفينة ابحاث علمية كل واحد كان له حجرة خاصة به وحمام جاكوزي!
قال وهو يسرسب مفاجآته: بس الحمام بتاع الحجرة بتاعنا حمام مشترك وفى الممر!
أسقط فى أيدينا.. فقد كنا قد دخلنا الميناء... واقتربنا من الباخرة الروسية السوداء كئيبة اللون التى تشبه سمكة القرموط المنتشرة فى ترع القرى وأبيار السواقى حيث تعيش وتكبر وتترعرع... ولكن ما باليد حيلة...
خرجنا من دائرة الجمرك والباسبورتات اتختمت خروج.. وما فيش خط رجعة..
قلت لنفسى وأنا أصعد إلى الباخرة الروسية المتجهمة الوجه: آدى أول مقلب ومعلش يا عم عباس.. عوايدك موش حاتشتريها..!
<><
بان على وجهى ملامح الاكتئاب.... وأنا أهبط وراء «المورط الأعظم» كما أطلقت على عباس مبروك يومها.... سلم السفينة التى تشبه حوتا أحدب مسكينا جرفته مياه المحيطات بعد أن مات غرقا أو كمدا إلى المياه الدافئة فحولوه إلى سفينة أبحاث منحوها اسم «اكتيولوم» يعنى الباحث بالروسية.. ودعونا لركوبها فى رحلة فى البحر الأبيض من الإسكندرية حتى بيروت محطتنا الأخيرة!
جاءت فتاة روسية كئيبة الوجه ترتدى رداءً أسود كأنها عفريت العلبة.. هى لا تتكلم إلا الروسية التى لا نعرفها.. قادتنا بالإشارات الى صعود عدة سلالم غبراء كالحة إلى حجرتنا.... وضعت هى أمتعتنا وحقائبنا على رف مثل رف قطارات الدرجة الثالثة.. التى ينام عليها المزوغون من دفع ثمن التذاكر مع الشنط والقفف والمشنات.. وزلع المش والجبنة الحادقة إياها... وتركتنا الفتاة وأغلقت الباب من الخارج.. أحسست ساعتها أننا دخلنا الزنزانة.... لذنب لا أعرفه.. ربما يعرفه عمنا عباس وقائد السفينة الروسية!
<><
نظرت إلى عباس ضجرا وقلت له قرفا: على فكرة هو احنا الاثنين عملنا جريمة موش فاكرينها... وبنفذ الحكم جوه سجن ماشى فى المياه الدولية؟
قال عباس بصوت مكتوم: والله عندك حق... إيه بس اللى رمانا الرمية السودة دى بس.... دى سفينة من مخلفات الحرب العالمية الثانية...
كانت السفينة قد تركت ميناء الإسكندرية الذى أصبح أثرا بعد عين.. مجرد شريط يضئ ويلمع على البعد..
<><
وجدت لافتة على حجرة فى مقدمة السفينة عليها رسم قبعة بحرية... طرقت الباب مرتين ولكنه لم ينفتح.. بسملت وحوقلت ودفعت الباب بيدى فانفتح على القبطان نائما ممددا على سرير خشبى قلت له بالإنجليزية: هل من الممكن أن نعود أنا وصديقى إلى الاسكندرية مرة أخري؟
قام من مرقده هذه المرة وهو يقدم لى السلطانية التى يشرب منها وهو يقول بالانجليزية: لو تذوقت ملعقة واحدة من هذا الحساء الرائع المفيد.. لغيرت رأيك وأكملت رحلتك!
قدمت لى الفتاة ملعقة جديدة غمستها فى إناء الحساء الذى تحمله بيديها وسحبت سحبة وجدت نفسى بعدها أقول له: ايه الهباب اللى باشربه ده.. قلتها بالعربية هذه المرة..!
قال: إنه حساء الكرنب العجيب!
أسقط فى أيدينا هذه المرة.. لا مفر ولا مهرب إذن من إكمال الرحلة فى مركب الكرنب الروسية.. وأمرنا لله..
نسيت أن أقول إن السفينة كانت تعمل بالفحم والدخان يصعد إلى أعلى من مدخنة سوداء تغطى البحر الأبيض كله بسحابة من الدخان الأزرق.. وكأنها قطار زمان الذى كان يغنى له عبدالوهاب فى الأربعينيات من القرن الماضي: إجرى إجرى إجري.. قوام وصلني.. دا حبيب الروح مستني!
قادونا إلى حجرة هى صورة طبق الأصل من حجرة الكرار فى بيت العائلة فى القناطر الخيرية حيث أمضينا صبانا..
وقالوا لنا: أهى دى بقى حجرة الطعام!
كراسى وترابيزات تماما مثل كراسى وترابيزات قهوة «بعجر» فى حى القللي.. وأكواب وملاعق وشوك وسكاكين من الألومنيوم.. وفوط مثل فوط المطبخ عندنا.. جلسنا لأول مرة مع طاقم السفينة.. كانوا ستة من علماء الأعماق والأحياء البحرية.. يتقدمهم القبطان الذى يشبه ياشين أحسن حارس مرمى فى العالم وهو روسى طبعا.. انتظرنا أن يأتونا بالمحمر والمشمر.. حتى نقتل الجوع الذى استقر فى معدتنا.. ولكن لم يأت شيء.. كانوا حولنا يدخنون البايب بشراهة..
انفتح باب حجرة الطعام فجأة.. ودخلت ثلاث فتيات روسيات طبعا.. كل واحدة تحمل صينية فوقها فناجين حساء الكرنب اللعين.. قمنا من مقعدنا.. واعتذرنا عن عدم استكمال العشاء..
وعندما دخلنا غرفتنا كان القرار المعلن فى رأس كل منا على حدة.. دون أن ننطق به.. هو الفرار من سفينة الكرب.. أقصد الكرنب الروسية!
أمضينا يوما من طلعة النهار حتى غروب الشمس فى عمل تحقيق صحفى حى مع علماء السفينة عن المياه والأحياء المائية والتلوث وقاع البحر الأبيض وطبيعته وأحيائه وماذا تغير وماذا بقى لحاله عبر مائة سنة على الأقل؟.
وفى المساء هلت أنوار مدينة بورسعيد أمامنا.. ولو تركناها.. لن يبق أمامنا إلا إكمال الرحلة حتى بيروت..
قلت للقبطان الشاب مليح الوجه ممشوق القد.. بالانجليزية طبعا.. لابد أن ننزل فى بورسعيد!
قال: موش ممكن قوانين البحار لاتسمح.. إلا فى آخر الرحلة فى بيروت كما قالوا لي.
قلت: لكن إحنا موش عاوزين نروح بيروت.. لازم ننزل هنا فى بورسعيد.
راح يفكر ويفكر ثم يفكر ويفكر مثل عمنا عبدالمنعم مدبولى فى مسرحية «أصل وصورة».. ثم قال: مافيش غير إن واحد فيكم يمرض بمرض خطير ولا علاج له إلا فى مستشفي.. فنطلب الميناء لترسل زورقا يحمله إلى الشاطئ!
رحت أتلوى أمامه ـ تمثيلا طبعا ـ وأنا أصيح بالصوت الحياني: إلحقونى ألم فظيع.. قال عباس مشاركا لي: أظن أنه المصران الأعور!
ضحك القبطان للتمثيلية التى رسمناها معا..
ثم اتصل باللاسلكى بميناء بورسعيد وأخبرهم أن لديه مصريا مصابا بالزائدة الدودية لابد من إرسال زورق مصرى لحمله إلى الشاطئ!
وظهرت الشهامة المصرية فى حينها وجاء الزورق النجدة.. وسألنا ضابط مصرى شاب: فين العيان؟ قلت فى صوت ضعيف: أنا ياحضرة الضابط إلحقنى وحياتك.. ونزلنا إلى الزورق فى عرض البحر أنا وعمنا عباس يحمل الحقائب..
سألنى الضابط: مين ده إللى نازل معاك؟
رد عباس بنفسه: أنا يافندم الدكتور بتاعه.. ملازمه على طول عشان متحصلوش مضاعفات!
قلت للضابط ضاحكا بخبث: دكتور إيه ياحضرة الضابط.. ده برضه شكل دكتور.. ده التمرجى بتاعى إللى بيدينى الحقن!
<><
ونزلنا بورسعيد فى منتصف الليل..
لم تكن المدينة الباسلة كما هى الآن.. فنادق خمس نجوم وقرى سياحية ومحلات فيها أحدث الموديلات.. ومطاعم آخر شياكة..ولكنها أيامها كانت يادوب أشبه بمدينة الزقازيق أو شبين الكوم.. وربما كفر بخاتى فى الخمسينيات!
أحسن لوكاندة هنا لاتفرق كثيرا عن لوكاندات العتبة وشارع كلوت بك!
فى شارع الجمهورية عثرنا على لوكاندة لا أذكر اسمها الآن.. وإن كانت تشبه لحد كبير لوكاندة «نوم العوافي» لصاحبها عبدالشافى التى سرقوا فيها محفظة نجيب الريحانى عندما أمضى فيها أول ليلة فى القاهرة فى فيلم «سى عمر»..
قال لنا كاتب الاستقبال وكان يلبس جلبابا وجاكتة وطاقية شبيكة فوق رأسه: فيه أوضة أربع أنفار تاخدوها..؟
قلنا: ناخدها.. بكام؟
قال: تلاتين قرش النفر الواحد!
قلنا: ماشي..
قال: أدى مفتاح لكل واحد ومع كل مفتاح قبقاب!
سألنا فى دهشة: قبقاب ليه؟
قال: عشان تروحو بيه دورة المية فى آخر الطرقة.. وإنتم ماشيين الصبح تسلموا المفاتيح ومعاها القباقيب!
أمضينا ليلة لها العجب فى لوكاندة القباقيب.. هذه..
<< ملحوظة من عندي: هكذا يارفاقى فى الهم الصحفى كانت أسفار الزمن الجميل.. موش دلوقتي.. آخر ظرف وآخر حلاوة. وآخر مفاجآت!
فى الصباح كان الأوتوبيس البولمان المفتخر يحملنا إلى القاهرة.. معلنا نهاية رحلة مركب الكرنب الروسية!.
ويصفق الحاضرون اعجابا وسرورا وحبورا{
----------------------------------------------------------
تنـويه
جاءنى رفيق الدرب والهم الصحفى الأخ العزيز شيروكو حبيب مدير مكتب دولة الحزب الديمقراطى الكردستانى العراقى فى القاهرة شاكيا من الأخطاء التى جاءت فى تحقيق رحلتى إلى بلاد الأكراد فى عام 1964 ولقائى مع زعيمهم الملا مصطفى البرزانى أيام رحلة الكفاح السياسى التى مازالت قائمة حتى الآن.. والأخطاء غير المقصودة هي:
1 ـ أن الملا البرزانى لم يدرس فى الأزهر .
2 ـ وأن رئيس العراق أيام رحلتى كان عبدالرحمن عارف.. وليس حسن البكر.
3 ـ وأن الملا البرزانى حملنى رسالة إلى جمال عبد الناصر.. وليس إلى أنور السادات.
ونحن بدورنا نأسف لهذه الأخطاء غير المقصودة طبعا.
----------------------------------------------------------------
>> أسقط فى أيدينا.. فقد كنا قد دخلنا الميناء... واقتربنا من الباخرة الروسية السوداء كئيبة اللون التى تشبه سمكة القرموط المنتشرة فى ترع القرى وأبيار السواقى حيث تعيش وتكبر وتترعرع... ولكن ما باليد حيلة