المصريون
جمال سلطان
"حماس" إذ تخطئ التقدير والتعبير والحساب
قضية فلسطين تظل القضية الأهم والأكبر التي تلامس قلوب ملايين العرب والمسلمين حول العالم ، لأنها المظلومية التاريخية الممتدة والحية في الضمائر منذ أكثر من ثمانين عاما على الأقل ، كما أنها تتصل بحرمة المسجد الأقصى المبارك ، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، كما أنها تتعلق بالقدس مدينة السلام ، المدينة التي أراقت البشرية حولها وفيها ـ على مدار التاريخ ـ بحار الدم من أجل السيطرة عليها لرمزيتها التاريخية والدينية ، أضف إلى ذلك أن قضية فلسطين تتعلق بأشقائنا الذين نفتديهم بكل غال ولا نتخلى عن نصرتهم على مدار السنين .
لذلك كنت أتمنى أن تستحضر حركة حماس الفلسطينية كل هذه المعاني وهي تعلن بيانها المشين الذي علقت به على الضربة الاستعراضية لأمريكا وبريطانيا ضد بعض مواقع بشار الأسد وعصابته ، لأن البيان الذي أصدرته حماس أعطى انطباعا واضحا بالانحياز إلى عصابة بشار الأسد ، الملوثة يده بدماء نصف مليون سوري ، لقد قال البيان ما نصه : (ندين عدوان أمريكا وحلفائها على الأراضي السورية ، ونعتبره عدوانا سافرا على الأمة ، يهدف إلى استباحة أراضيها وتدمير مقدراتها حفاظا على وجود الكيان الصهيوني وتمرير مخططاته) .
كيف كان قصف بعض الطائرات لمراكز انتاج الأسلحة الكيماوية التي قتلت أطفال سوريا عدوانا سافرا على الأمة ، أية أمة تقصدون ، وكيف يكون قصف بعدة طائرات أو صواريخ لمدة خمسين دقيقة لم يقتل فيه شخص واحد استباحة لأراضي سوريا وتدمير مقدراتها حفاظا على الكيان الصهيوني ، هل لا تعلمون فعلا من الذي استباح أراضي سوريا الآن ويرفع أعلامه هناك ، هذه العنتريات الفارغة والكاذبة يمكن أن تمر ، كما تمر الأغاني الصاخبة والفجة عن البطولات العربية الشهيرة ، لو أنها أطلقت في فراغ أو في ظروف مختلفة ، لكن أن تنتفخ أوداج البعض في حماس بهذه العبارات الفخمة الضخمة ، فإن البديهي أن يسألهم الناس : وماذا عن العدوان الإيراني على الشعب السوري ، وماذا عن العدوان الروسي على الشعب السوري ، وماذا عن عدوان عصابات حزب الله الشيعي اللبناني على الشعب السوري ، لماذا صمتم هناك ونطقتم هنا ، هل العدوان فيه خيار وفقوس ، فهناك عدوان مقبول ومشروع نبتلعه ونصمت عليه وعدوان آخر نتعنتر في إدانته .
الأخلاق والمروءات تقتضي من حركة حماس أن تدين قتل أطفال سوريا بالسلاح الكيماوي ، وهو ما ثبت قطعيا بتقارير فرق التحقيق التابعة للأمم المتحدة ، لا يليق أبدا بأي "إنسان" بما هو "إنسان" ناهيك عن أن يكون صاحب قضية ، أن يتعاطف أو حتى يصمت على مجرم مثل بشار الأسد يقتل أطفال سوريا بالسلاح الكيماوي ، فضلا عن قتله المستمر للشعب السوري بالصواريخ والبراميل المتفجرة وكل ما تطاله يده من سلاح فتاك ، كان ينبغي على الإخوة في حماس أن يتذكروا أن كل الدم العربي حرام ، وليس الدم الفلسطيني وحده ، فدماء أطفال غزة ليست أغلى من دماء أطفال غوطة دمشق ، وشرف نساء غزة والقدس ليس أغلى من شرف نساء دمشق وحلب وحمص وحماة ، كنت أتمنى أن لا يضطرنا الإخوة في حماس إلى تذكيرهم بما يحرجنا نحن العرب ، وهو أن الكيان الصهيوني لم يقتل من أطفال فلسطين نصف ما قتله بشار الأسد من أطفال سوريا ، وأن الكيان الصهيوني الذي ارتكب جرائم عديدة ضد أهلنا في فلسطين لم يجرؤ على قصفهم بالسلاح الكيماوي كما فعل بشار بشعب سوريا ، وأن الكيان الصهيوني لم يدمر من المدن الفلسطينية نصف ما دمر بشار من المدن السورية ، وأن الكيان الصهيوني لم يقتل نصف مليون فلسطيني طوال نصف قرن ، بينما قتل بشار الأسد نصف مليون سوري خلال سبع سنوات فقط ، وأن الكيان الصهيوني لم يهجر ثمانية ملايين فلسطيني في الشتات طوال سبعين عاما ، ولكن بشار الأسد هجر ثمانية ملايين مواطن سوري في الشتات خلال سبعة أعوام .
هل كنتم تشاهدون ما يشاهده العالم كله على الهواء مباشرة من حمم النيران والجحيم الذي تصبه طائرات العدوان الروسي على الشعب السوري في الغوطة قبل أسابع ، وهو ما وصفته الصحافة العالمية بأنه "كأنه يوم القيامة" ، هل كنتم تشاهدون ما يشاهده العالم كله من إبادة كاملة مارسها الروس في حلب قبل أشهر ، وهل كنتم تشاهدون عمليات الإبادة والسحق التي يمارسها الأمريكيون في الرقة فلم يبقوا فيها حجرا على حجر ، وهل تشاهدون ما يشاهده العالم كله من احتلال إيراني غاشم لمناطق واسعة من سورية وإنشاء حسينيات وإقامة حفلات اللطم العلنية لإعلان الاستيطان الطائفي الجديد ورفع الأعلام الإيرانية في المدن السورية ، اليوم تتباكون على قصف استعراضي لم يقتل فيه شخص واحد ؟ .
أقدر الضغوط التي تتعرض لها حماس ، وأقدر ارتهان الكثير من المواقف السياسية بحسابات الداعم الإيراني ، حين عز الداعم العربي ، وأعرف أن الزمار عادة يختار اللحن الذي يعجبه ، وأنا أعرف بشكل شخصي أن كثيرا من القادة الكبار في حماس يحتقرون بشار الأسد ويسلمون بجرائمه ووحشيته ويدركون المخاطر الإيرانية وأطماعها ، ولكن الضرورة ـ حسب رأي بعضهم ـ تضطرهم إلى بعض المواقف ، قد نتفهم هذا كله ، ولكن كان يمكن الخروج من المأزق بأساليب أخرى ، وأنتم حركة سياسية تملك الخبرة والمران الطويل ، كان يسعكم الصمت أو التجاهل كما تجاهلتم كل الجرائم السابقة للإيرانيين والروس وعصابة الأسد ضد الشعب السوري ، كان يمكنكم أن تصدروا خطابا فضفاضا ، كما فعل البعض ، لكن أن يكون الأمر بهذا الانحياز السافر والمهين لطاغية مجرم خدم الصهاينة أكثر مما خدمهم أي عميل آخر ، فهذا ما كنا نتمنى أن لا نسمعه أو نقرأه أبدا .
لقد دفعت شعوب العرب ضريبة هائلة ـ على مدار سبعين عاما على الأقل ، من حريتها وكرامتها على يد طغاة مجرمين تاجروا بقضية فلسطين ، وقهروا شعوبهم ونهبوها وتركوها خرابا تحت دعوى المعركة من أجل تحرير فلسطين ، وكنا نتصور أن هذه الصفحة الإجرامية النفاقية قد طويت ، وأن الطغاة أصبحوا في العراء ، حتى فوجئنا بمثل هذا البيان الغريب الذي يعيد انتاج خطاب النكسة والتضليل .
الحسابات الخاطئة ، وسوء التقدير المتكرر ، أخشى أن يفقد الحركة حواضنها الشعبية في العالم العربي والإسلامي ، بل وأن تخسر قضية فلسطين نفسها الإجماع العربي والإسلامي حولها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف