عبد الجليل الشرنوبى
فى (أبريل) راعى البقر يعود معتدياً
(راعى البقر) امتطى خريطة العالم واستقر، وكلما راودته نفسه باستعراض قدراته، تلمع نصال نجمته المزروعة بحذائه، فيحركها على بدن الخريطة (الجواد)، ينزف البدن ويسقط قَطْرُ الدماء حاملاً أرواح آلاف الضحايا، بينما تعلو قهقهات (راعى البقر) وهو يبتعد مخلفاً أدخنة تختلط فيها رائحة إنسانية تحترق مع دخان سيجاره الفاخر.
(راعى البقر) يملك قرون استشعار خاصة توقظ نهمه للدم، وحين يختلط برائحة النفط والغاز يستعر، وعندما يكون الصيد عربياً يفقد (راعى البقر) كل قدرة على مقاومة توحشه، فينزع كل أقنعة الهيئات الأممية، والقوانين الدولية، والمعايير الحقوقية، لتستحيل جميعها فى قبضة (راعى البقر) خادمات لقرابين مجده المعاصر وعالمه الجديد.
قبل خمسة عشر عاماً كان (إبريل 2003) ، عندما سال لعاب (راعى البقر) فتقاطر قنابل وصواريخ فوق رأس (بابل) المرفوع حضارة منذ القِدَمْ، كان (إبريل) الذى ذاقت فيه أمتنا وجع أنياب (راعى البقر) وهى تُعْمِّلْ نهشها فى أوصال أرض الرافدين وناسها ومقدراتها، كان (راعى البقر) يُجرب فينا للمرة الأولى نهش التاريخ والأوطان والأبدان على الهواء مباشرة، وكان التجريب مشوباً بالحذر، فهو لم يطمئن بعد لأن عصوراً راعاها من الفساد والإفساد قد أتت أُكلها شعوباً مقهورة وأنظمة قاهرة وأوطاناً هشة، وجرَّب (راعى البقر) وزال حذَرُه، فأعلن من عاصمة كيانه المحتل عن بداية الإعداد لـ (شرق أوسط جديد).
بعد خمسة عشر عاماً كانت أمتنا على موعد مع (إبريل) جديد، بعدما استحال (الشرق الأوسط الجديد) قاب قوسين أو أدنى من المثول واقعاً، وكما بشَّر (راعى البقر)، انهارت بعد العراق أوطانٌ وتداعت أنظمة، وتغيرت الحدود كما انقلبت الأحلاف والولاءات، ومُزقت الشعوب خصاماً، مخلفة نقاشاً واقتتالاً، وتفاوضاً واقتتالاً، وتفاهماً واقتتالاً، وتصالحاً فاقتتالاً، حتى بات الاقتتال الداخلى سمة مرتبطة بكل ممارسات الحياة، ومن لم يحمل السلاح فى العالم الواقعى فسيستخدمه فى العالم الافتراضي، لأن (راعى البقر) يهوى صيد القطعان بعدما تفتتها الخلافات وتنهكها الصراعات. فى مبررات (إبريل) القديم تذرع (راعى البقر) بتقارير (لجان تفتيش) غير محسومة حول (أسلحة دمار شامل) عراقية، ثم تولى ليزرع الدمار الشامل فى أنحاء العراق، كان يفترض حينها أن للإنسانية ضميرا ينبغى إسكاته، وأن لأمتنا بقايا حِمية ينبغى تخديرها، أما فى (إبريل) الجديد، فإن (راعى البقر) كان مطمئناً إلى أن الضمير الإنسانى بات مغيباً بفعل الأطماع فى خيرات أمتنا، والانحياز لأمن الكيان المحتل، فى حين ضَمِنَ (راعى البقر) أن أمتنا باتت أوهن من أن تئن، بعدما أثُخنت فيها الجراح، وكُبِلَتْ رائدتها بالأخطار والمهددات والأثقال والأعباء، ولهذا عندما قرر (راعى البقر) أن يعاود عدوانه فى (إبريل 2018)، مستهدفاً (دمشق) حاضرة الدنيا قبل عدة قرون، لم يعى نفسه بالبحث عن مبررات، مكتفياً بشبهة تورط النظام السورى فى استخدام أسلحة كيميائية، ومتجاوزاً حتى وصول (لجان تفتيش دولية)، وسال من جديد لعابه قنابل وصواريخ!.
فى عدوانه الجديد على أمتنا، تجاوز (راعى البقر) قاعدته السابقة (التفتيش قبل القصف)، وصار على الضمير الإنسانى أن يلعب دور (أبو رنه) فى جوقة المطرب (مزازنجي) التى قدمها فيلم (الكيف)، ليوصى (راعى البقر) بمراعاة القاعدة الأساسية فى الأداء، والتى تؤكد أن (التسليك قبل الفتح)، أو بمعنى أدق (التفتيش قبل القصف)، لكن واقع (راعى البقر) يؤكد أن (مزاجُه أو كِيفُه) قادر على أن يعطى لأداءاته صفة القانون حتى وإن ناقضت نفسها، وليس مطلوباً من الدنيا كلها إلا أن تتوافق معه.
إن هذا النهم المشرعن بقانون سيادة (راعى البقر)، يجعل الانتصار لسوريا والوطن العربي، يبدأ من صناعة انتصار وطنى فى معركة الوجود، نابعا من تنبه الأمة المصرية لحقيقة المشروع المستهدف للمنطقة من حولنا، والساعى لإعادة رسم خريطة المنطقة، متجاوزاً حدود الرسم الجغرافي، إلى إعادة صياغة دوائر التأثير والثقل فى بدن الأمة، والتى تمثل الأمة المصرية ركن زاوية فى ثباتها، فرغم الوهن السارى إلا إن مكامن القوة فى الوطن المصرى لم تعدم أسباب الاستنهاض على كل المستويات، كَوّن بادراتها نموها مرتبطة بجذور ممتدة فى كل تربة الحياة، وإن كان بعض ذبول قد أصابها بفعل عقود من الفساد والإفساد، إلا أن التاريخ القديم والقريب يؤكد أن بعض رعاية راقية من راعٍ واعٍ، قادرة على أن تحيل البادرات المصرية إلى أعمدة ترفع ما تهدم فى البيت العربي.
عاد (راعى البقر) فى (إبريل) معتدياً، ليذكرنا بأن العدوان الذى كان قبل خمسة عشر عاماً، غير منفصل عن عدوان اليوم، ولكن الخطر الأكبر هو أن عدوان اليوم يأتى ليُحمَّل مصر وأهلها مسئولية امتلاك أسباب النهوض حتى يمكن أن تتدارك الإنسانية رشدها قبل أن يدهس راعى البقر ما بقى منها بعدوانه.