التحرير
د. مجدي العفيفي
المصباح النسائي.. (5)
الجذور.. والخطيئة الأولى: البحث في الجذور. بقدر ما يتعب الباحث ويضنيه، نظرا لعدم مطابقة التصورات للتصديقات، بقدر ما يريح حين يصل إلى نتيجة ولو مُـرضية، فقد تهدأ علامات الاستفهام، وربما تستريح علامات التعجب على شاطئ الحق وصولا إلى الحقيقة، والحقيقة هي مرادات كل باحث جاد يستند إلي جدار المنهجية. الباحث في الأوضاع المعاصرة للعلاقة بين الرجل والمرأة، يتصدى لكثير من الإشكاليات الملتوية، حتى وإن لم يعتبرها البعض مدار العلاقات الإنسانية.
تبدو الصورة المرسومة للمرأة غير سوية، بل تبدو النظرة إلى هذه الصورة غير طبيعية، ليتجلى السؤال الكبير والمؤلم: لماذا تتكاثر المتناقضات في النظر إلى المرأة كمخلوق كرَّمه الخالق العظيم؟ من أين تأتي المفارقات في المفاهيم البشرية، التي تمتلئ بالأوهام والأساطير والخرافات، وقد سادت فصارت من المسلمات، والاقتراب منها أصبح في عرف المحرمات؟
في أدبيات تراثنا، والتراث مجرد تفاعل إنساني نسبي مرهون بالزمان والمكان ومشروط بالأرضية المعرفية والعرفية، تسللت هذه الأباطيل، وتجبرت على المرأة، فطمست شخصيتها، ونهشت ذاتيتها، وغلقت بشريتها، ومسخت إنسانياتها، بالتراكمات المعرفية والتاريخية. وكان المصدر الأول هو التفسيرات البشرية المتباينة لــ(الخطيئة الأولى)، التي ألصقوها بالمرأة، على وجه التحديد، ولعل هذا ما دفع بعض الباحثين من ذوي القراءات المعاصرة، إلى أن يجزم بثقة ويقدم البرهان، على أن اليهودية هي أول من ألقى تبعة الخطيئة الأولى على المرأة، وتابعتها على ذلك المسيحية، ولقيت أصداء لدى نفر من أهل الفكر الإسلامي، الأمر الذي يفسر تسلل القصة التوراتية لبدء الخلق وللخطيئة الأولى إلى أغلب التفاسير المعتبرة للتنزيل الحكيم، رغم عدم وجود ما يدعمها أو حتى يشير إليها.


فماذا في الرواية التوراتية؟
وردت القصة في سفر التكوين، الإصحاح الثالث، الفقرات ا - 91، تقول:
(وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منها ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت، فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها، فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت، فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة الحية أغرتني فأكلت، فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة تكثيرا أكثر آلام حبلك، بالوجع تلدين أولادا، إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزا، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود).

ولننظر في جذور أخرى لهذه الصورة الوهمية للمرأة.
(بدأ التاريخ السومري، قبل أن يتحول عند بابل وآشور إلى مجتمع ذكوري، سلطة الأب فيه مطلقة، والحكم الأخلاقي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي يختلف على الرجل منه على المرأة.
أما في الديانات الفارسية -الزرادشتية والمانوية والمزدكية- فرغم أنها لم تلقِ تهمة الخطيئة الأولى على المرأة، إلا أنها اعتبرتها كائنا غير مقدس، عليها أن تربط عصابة على فمها وأنفها، كيلا تدنس أنفاسها النار المقدسة. ثم تحولت عصابة الأنف والفم في المجتمعات الفارسية إلى جلباب تلبسه المرأة من رأسها إلى قدميها، لكنه كان خاصا بالحرائر ونساء علية القوم، ولا يجوز للإماء ونساء العوام ارتداؤه، ولعل هذا هو الأساس الثقافي لمفهوم الشادور في إيران بشكل خاص وفي العراق. ومفهوم التفريق بين لباس الحرة ولباس الأمة الذي بقي حتى عهد ما بعد النبوة (الدولة العربية الإسلامية).
وأما الديانات الهندية -الفيدية والبراهمية والبوذية- فكان شأنها شأن الديانات الفارسية والرافدية، لم تعتبر المرأة مسئولة عن الخطيئة الأولى، لكنها اعتقدت بأن المبدع الإلهي حين خلقها، صاغها من قصاصات وجذاذات المواد الصلبة، التي زادت لديه بعد عملية خلق الرجل، وأوجبت على الزوجة أن تخدم سيدها (زوجها) كما لو كان إلها (!!).
وحرمت المرأة من دراسة كتب الحكمة والفلسفة والدين، فقد جاء في الماها بهارتا: إذا درست المرأة كتب الفيدا كان هذا علامة الفساد في المملكة، وأخيرا فقد فرضت بعض الديانات الهندية الحجاب على المرأة، ومنعت الاختلاط بها، حتى إننا نجد بوذا يتردد كثيرًا في قبولها لتكون من أتباع دينه. وجاء في حواره مع ابن عمه آنندا:
آنندا: كيف نعامل النساء أيها السيد؟
بوذا: لا تنظر إليهن.
آنندا: فإذا اضطررنا للنظر إليهن؟
بوذا: فلا تخاطبهن.
آنندا: فإذا خاطبننا؟
بوذا: فكن منهن على حذر!
أما الديانات الفرعونية فقد اختلف موقفها من المرأة عن غيرها من الديانات، بسبب تأثير عصر الأمومة الذي امتد حتى الإمبراطورية الوسطى، فكان النسب للأم، والمرأة وحدها هي التي تملك وترث، وكان لها منزلة خاصة رفيعة في المجتمع، تختلف عن منزلتها في باقي المجتمعات القديمة الرافدية والفارسية والهندية، فهي التي تنزل إلى الأسواق لتمارس التجارة، تاركة الرجل في البيت لينسج، ولم يكن غريبًا، والحالة هذه أن نجد في النقوش التاريخية أسماء كثيرة لنساء مثل كليوباترا ونفرتيتي، وأن نجد رمسيس الثالث يتباهى بالمرأة في مملكته، فهي (تذهب حيث تشاء مكشوفة الأذنين فلا يتعرض لها أحد)، كما لم يكن غريبًا أن يعلق ماكس ميلر على ذلك قائلا: «ليس ثمة شعب قديم أو حديث رفع منزلة المرأة مثل ما رفعها سكان وادي النيل».




























































































تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف