إنها مصر
وماذا تنتظر من أمة يؤمن » بعضها » أن جثمان صدام حسين، وجد كما هو ولم يتحلل، وخرج كبارها وصغارها يكبرون ويهللون، حاملين فوق أكتافهم نقالة خشب ؟
» أمة العرب » التي سلمت عقلها للخرافة، هي نفسها التي تسلم »بعض» شبابها لفرق الاغتيالات الهمجية، بعد أن تملأ عقولهم بالدم، وتقنعهم بأن قتل شقيقك ابن وطنك من أعلي درجات الجهاد، ويُلبسون جرائمهم الوحشية عباءة دينية، تتنافي تماماً مع جوهر وروح وتعاليم الإسلام.
صدام له ما له وعليه ما عليه، تحت عدالة الواحد القهار. لكن البكاء علي أطلاله هو قمة الغيبوبة التي تعمي القلوب والأبصار.
كان من المستطاع أن يصبح العراق أغني دولة في العالم، بما يمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية، وشعب عظيم تلهمه الحضارة والتفوق والعزة والكبرياء.. لكن ضاع كل شيء في حروب أنهكت قواه واستنزفت موارده، ومحصلتها النهائية الاحتلال والتمزق والفقر والحرب الأهلية، ووقوع بغداد »قلعة الأسود»، تحت سيطرة من كان يحاربهم صدام.
أحترم السادات حين قال في أوج انتصاره »مقدرش أحارب أمريكا»، وأوقف مؤامرة كبري استهدفت جيشه وشعبه، فحافظ علي النصر الذي تحقق، وسعي إلي سلام الشرفاء، حماية لأرواح شبابه ومقاتليه الأبطال.
كان بوسع صدام أن يفعل مثل السادات، لكن قبل أن تصمت المدافع علي جبهة إيران، سعي إلي غزو الكويت وجبهة جديدة لم تغلق حتي الآن، وكانت الضربة القاصمة التي مزقت التضامن العربي، وفتحت الباب واسعاً لكل أنواع الغزو والعدوان.
ليس العراق وحده الذي يدفع فاتورة غزو الكويت، لكن المنطقة كلها والعرب جميعاً، فاستهان الغرب بالدول، واستباح الشعوب، وخطط لتمزيق أراضيها ونهب ثرواتها، وجعلها حقل تجارب لاستهلاك مخزون الأسلحة والمعدات المكدسة في المخازن، واستبدلها بجيل جديد من أسلحة الثورة الرقمية المذهلة.. وتتحمل دول المنطقة البترولية فاتورة الحساب.
وبنفس منطق »جثة صدام التي لم تتحلل»، تمضي الأوضاع في اليمن وسوريا وليبيا.. الأموات يحددون مصائر الأحياء، والأحياء يبحثون عن المستقبل في مقابر الأموات.
اليمن الذي كان سعيداً صار حزيناً، ودمشق الحرة تئن علي مائدة اللئام، وليبيا تحن لديكتاتورية القذافي، ويجدد »بعض» منها الدعوة إلي كشف مكان دفنه، بعد أن دفنوا معه أي أثر ودليل، ووضعوا فوق جثمانه الجير الحي، حتي لا تشتم رائحته الحيوانات الضالة، فتنبش قبره في الصحراء.
ماضي العرب الأسود لا يستحق الذكري ولا البكاء، وكل الجراح يمكن أن تشفي، إلا أن يخرج جزء من أبناء نفس الشعب، ويمزق الهوية والروح الوطنية، ويتحالف من أجل مصالحه الخاصة مع أعداء لبلاده، أكثر شراً من الشيطان.
الإخوان وداعش والحوثيون والقاعدة وغيرهم.. بن لادن والبغدادي والظواهري وتركماني والشيشاني والأنباري وغيرهم، صورة طبق الأصل.. هم شياطين الموت الذين يتفننون في إزهاق أرواح الأحياء، قتلاً وذبحاً وتقطيعاً وشياً وإغراقاً، وانتزعت من قلوبهم أدني درجات الرحمة، وزرعت الوحشية والدموية والهمجية.
ماذا ننتظر ؟
أقصي درجات الخوف: أن يحتمي الأحياء بجثث الأموات، بحثاً عن أمن مفقود، وحياة محفوفة بالموت، فهرع الأنصار والأعداء إلي قبر صدام، أحدهما يزعم أن الجثمان لم يتحلل، والآخر، يهدمه بالديناميت خوفاً من الرفات.. وبين الاثنين تاهت الحقائق وسادت الأباطيل.
اتركوا جثث الأموات لحساب العدل، وانصرفوا نحو الرحمة والشفقة والرفق بالإنسان.