الأهرام
يسرى عبد الله
نحو مشروع جديد للثقافة الوطنية
يبدو الانتقال من حال التشخيص إلى وضع العلاج انتقالا من براح السؤال إلى فخ الأجوبة، من القدرة على تأمل واقع متحول إلى محاولة صياغته صوغا جديدا ومختلفا، من مجاوزة السائد والمألوف إلى تصور مغاير صوب العالم، فثقافة الكرنفال التى خلفت صخبا هائلا ونتاجا يسيرا، والتخلف عن متن المعركة المصيرية للأمة المصرية فى مجابهة التطرف والإرهاب، وتردى الأداء العام للثقافة الرسمية بما أفضى إلى تراجع القوة الناعمة المصرية، كل هذه المؤشرات تقتضى خيالا جديدا فى إعادة الاعتبار للمنجز الثقافى المصري، ووصله بمجتمعه، وبمحيطيه العربى والعالمي.

ربما يمكننا أن نبدأ من هنا فى الحقيقة، من تحرير المصطلحات الملتبسة فى أذهان الناس، حول معنى الثقافة، والمثقف معا، لكن ونحن نفعل ذلك يجب أن نصنع الأكثر أهمية فى هذا السياق، حيث يجب النظر بموضوعية شديدة فى دور وزارة الثقافة، وهل تؤدى دورها المنوط بها فى الأساس، وما طبيعة هذا الدور، فعلى تعاقب الوزارات التى أتت بعد ثورة يناير لم نرَ إجابة شافية ولا رؤية كلية تختص بهذه الموضوعات الحيوية، فالثقافة بوصفها معنى متجددا ليست حكرا على مجموعة من المثقفين، قد تجمعهم ثقافة «الجيتو» كما أنها ليست ملكا لأحد، إنها ابنة الحرية والمعرفة الموضوعية والنظر الخلاق للعالم والأشياء، ولذلك يجب أن ننظر إلى وزارة الثقافة باعتبارها إحدى الآليات المهمة فى تنوير الشعب المصري، وتحرير وعيه، فى مواجهة مروجى التطرف والنمط الخرافى فى التفكير.

يجب أن تختص الوزارة بأنماط التجسيد الإبداعى للمعرفة والفن بتنويعاتهما المختلفة، فيما يمكن أن يسمى بالصناعة الثقيلة للثقافة، وهذا كله موصول بأفكار شديدة الأهمية عن الحريات الفكرية والإبداعية، وحرية البحث العلمي، ومرتبط أيضا بتخليق أجواء موضوعية ونزيهة وفاعلة فى دعم الدولة الوطنية فى مواجهة الجماعات المتطرفة والإرهابية التى تلعب لمصلحة الوكيل الاستعمارى الجديد.

وربما يكون فض التحالف بين الفساد والرجعية من جهة، وتعرية الصيغة المشبوهة للتلاقى المخزى بين بعض القوى الكبرى فى العالم المتقدم والتيارات الرجعية فى العالم العربى أحد أهم الأدوار التى يجب أن تلعبها الثقافة الوطنية الآن وتلتفت إليها، ومن المؤسف مثلا أنه لم يخرج بيان واحد من وزارة الثقافة فى أية مرحلة من المراحل الدقيقة التى مرت بها الأمة المصرية فى هذا السياق، ليحاول تفكيك هذه القضايا الكبري، ويخلق إطارا نظريا ممنهجا يكشف العوار الذى نجده فى الخطابات المتناقضة لعدد كبير من مثقفى الإسلام السياسى ومنظريه فى العالم، والمتحالفين معهم من داعميهم فى الغرب، ضمن التحولات المخزية لبعض قطاعات اليسار والليبرالية فى العالم المتقدم، ضمن الصيغة الجديدة للتحالف بين الاستعمار الجديد وتيار الإسلام السياسى فى عالمنا العربي. إذن فهناك حاجة حقيقية إلى وعى مسئولى الثقافة بما يسمى بجدل السياسى والثقافي، فمن العبث أن نطلب ممن لا يملكون وعيا نافذا بالعالم أن يسهموا فى تنمية وعى الجماهير، ستكون مفارقة جديدة ضمن عشرات المفارقات التى لم نزل نحياها.

يجب أن تنظر الثقافة لنفسها بوصفها تمثيلا جماليا وفكريا مختلفا ومتنوعا عن قيم التعدد الحضارى المصري، والتراكم المعرفى الذى صنعته الأمة المصرية، فلا إقصاء، ولا استبعاد، ولا محاصصة، ولا تغليب لأهل الثقة على أهل الكفاءة، وإنما تكريس لقيم النزاهة والموهبة والموضوعية بما يجعل الثقافة المصرية تجد أعلى تجلياتها فيما تقدمه، هذا ما يجب أن يكون. تعود الثقافة باعتبارها حالة مجتمعية بالأساس، بانشغالها بمد الجسور مع الدوائر المركزية الأخرى فى تشكيل العقل العام، وأعنى تحديدا الدائرة التعليمية، فالتعاون بين وزارتى الثقافة والتعليم شاحب للغاية، ولا نكاد نراه أصلا، وغنى عن القول إن المسألة أعمق من توقيع البروتوكولات بين الوزارات المختلفة، بل يجب أن تكون هناك صلة مباشرة بين التعليم والثقافة، تختفى من خلالها الأمية المتعلمة، ونقاوم من خلالها المد المتطرف المنتشر فى أمكنة ثقافية وتعليمية وبحثية متعددة. هذا الوصل مع الدائرة التعليمية مركزى للغاية، ويجب أن يتبلور عبر المؤسسة الإعلامية بروافدها المختلفة، سواء أكانت حكومية أو خاصة، فالإعلام الذى صار أداة أساسية لرفد الجماهير بقيم متعددة، يجب أن يتخلص من ميراث الخفة والسطحية والماضوية أيضا، فالبرامج ذات الحس التنويرى والتقدمى والتى تقاوم الأفكار المتطرفة قليلة للغاية؛ ولذا فإن ثمة حاجة ملحة إلى حضور واعد للثقافة فى مجرى الخريطة الإعلامية.

وبعد.. سيظل سؤال الثقافة الوطنية وارتباطه بمشروع الدولة المصرية وبمعنى الثقافة ذاتها فى انفتاحها على الجديد والمختلف والخلاق سؤالا مفتوحا على قيم التقدم والتنوير، حيث تصبح الثقافة- وباختصار - قيمة حيوية وضافية صوب غد أكثر جمالا وتقدما وإنسانية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف