فى العالم كله هناك ردع وقوة وسلاح مع الإرهابى، وفيه أيضاً حوار متواصل لا ينقطع مع المتطرف الذى لم يحمل سلاحاً أو يقم بإرهاب، حدث ذلك فى بلاد كثيرة، منها على سبيل المثال تونس، التى تمخض الحوار فيها عن قضايا مهمة منها:
أولاً: عدم وجود أى جماعة من جماعات الإسلام السياسى، لأن وجودها فى الدولة سيُؤدى إلى صدام حتمى بين الطرفين مع تكفير دينى أو تخوين سياسى من كلا الطرفين مع عنف واغتيالات وتفجيرات وسجون وتعذيب.
ثانياً: وجود حزب له سقف سياسى محدّد لا يصل إلى قمة هرم السلطة، لكن يشارك فى ما دونها، وقد لخص «الغنوشى» فلسفة الحزب «لئن نكون فى المعارضة خير من أن نكون فى السجن».
ثالثاً: المشاركة معاً فى محاربة الإرهاب وكل من يحمل أفكار العنف أو السلاح.
وبهذه المشاركة الثلاثية الأهداف جنّب الطرفان تونس التفجيرات والعنف والسجون والإقصاء والتشويه المتبادَل، وتوجّه الطرفان نحو التنمية وتطوير المجتمع فى سلام.
أما فى المغرب، فقد وضع الملك محمد الخامس سقفاً آمناً للتغيير، ضمن بقاء واستمرار الدولة وحال دون الثورات، فرأس الدولة «الملك» ثابت يضمن بقاءها، ومن أراد التغيير فليس له مبرر للعنف أو الثورات فسقفه عالٍ بالنسبة لدول العالم الثالث، ويصل إلى رئيس الوزراء. وقد أدت إصلاحات الملك السياسية إلى ضمان تحول تدريجى لمثل عبدالإله بن كيران من قائد جماعة عنيفة إلى السلمية، ثم حل الجماعة، ثم تكوين حزب، ثم الفوز، فالخسارة، فالفوز فى الانتخابات، ثم رئيساً للوزراء، ثم نجاحه فى الاختبار الملكى الأخير حينما رفض الملك تشكيله الوزارة، فلم يقم بثورة أو عنف أو يدعو إلى تفجيرات، بل قال «أنا رهن إشارة الملك حتى لو سجننى، فأنا راضٍ». كما قامت المغرب بخطوة فكرية استراتيجية فى إحلال الفكر الصوفى العلمى والقريب من فكر السلف الصالح دون بدع أو خرافات محل فكر الإسلام السياسى الذى يقوم أساساً على الفكر القطبى، ويعتمد على تكفير الحاكم واستبدال غيره به، وإحلال الجماعة لا شعورياً محل جماعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأولى وتحويل المعارك السياسية إلى معارك عقائدية، ووصف المجتمع المسلم بالجاهلى. الحوار وتجاربه فى كل مكان، فلدينا فى مصر ثلاث تجارب كبرى لـ«أبوباشا» و«فؤاد علام»، وهى تجربة محاربة التكفير فى السجن الحربى فى أواخر الستينات، التى أثمرت فلسفة وكتاب «دعاة لا قضاة»، ومنها تجربة تفكيك فكر التكفير والهجرة فى السبعينات، التى قادها فؤاد علام من الدولة وصفوت الزيتى من الجماعة. وتجربة ندوة الرأى التى حوّلت السجن إلى جامعة وأذيع بعضها فى التليفزيون، وأثمرت الإفراج عن آلاف المعتقلين كان بقاؤهم فى السجن خطراً على الأمن القومى، لأنهم كانوا على هوامش التطرّف، وبقاؤهم سيحولهم إلى إرهابيين، وكلهم تقريباً لم يمارسوا عنفاً وكانوا آلافاً.
أما التجربة الأكبر فى التاريخ، التى تستحق الدراسة فهى تجربة اللواء أحمد رأفت مع الجماعة الإسلامية، التى استندت إلى شقين أساسيين هما:
تحويل الجماعة من العنف إلى السلم وتغيير فكرها جذرياً، والثانى تسليم الجناح العسكرى أسلحته وأفراده طواعية، وعودة المئات من الهاربين داخل مصر وخارجها طواعية. واكب ذلك تغيير هائل فى عقلية السجون المصرية التى تحولت بعبقرية هذا الرجل مع قادة الجماعة إلى جامعة وورش إنتاجية وخدمية، مع حل المشكلات الاجتماعية والإنسانية وإيجاد فرص عمل للخارجين من السجون وعودة الموظفين إلى وظائفهم.
أما السعودية، فقد نجحت تجربتها التى تسمى بـ«المناصحة»، وهى مرحلة وسيطة بين السجن والحرية لتأهيل المتطرفين، وفى المغرب أيضاً نجح برنامج يسمى «مصالحة» أشرفت عليه قطاعات الأمن وحقوق الإنسان مع الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، أما «ألمانيا» فقد نجحت تجربة «الشراكة الأمنية»، التى انطلقت سنة 2011، وشارك فيها الأمن الألمانى مع ست منظمات إسلامية، وكذلك برنامج «EXIT»، الذى يقاوم التطرّف اليمينى والنازى، وتجربة «إندونيسيا»، التى نجحت وأثمرت كثيراً، وتجربة أستراليا فى تأهيل المتطرّفين فى السجون وخارجها.
فهل يمكننا أخذ تجربة من هذه التجارب أو دمجها جميعاً فى تجربة ملائمة لأحوالنا.
إن الحوار لا يعنى القفز على القانون أو تجاوزه، أو التقصير فى حق الشهداء، لكنه آلية تمنع وقوع المزيد من الشهداء والمصابين، وتحقن الدماء وتقى المجتمع من شرور كثيرة بأفكار بسيطة وكلفة قليلة.