المصريون
جمال سلطان
العاصمة تغرق من جديد في "شبر ميه" .. أين الخبر ؟!
على مدار السنوات العشر الأخيرة ، وذاكرتي تحفظ نوعين من التصريحات السنوية الثابتة والمتكررة من قبل الحكومة ، أي حكومة ، والوزير ، أي وزير ، الأول يتعلق بأن الاقتصاد تعافي ومؤشرات النمو رائعة وأن القادم من الأيام أفضل كثيرا والناس سترى أوضاعا مالية أفضل كثيرا وسيلمسون هذا التحسن في حياتهم اليومية ، وأننا ـ بتعبير الرائعة سناء جميل ـ سنخرج من عنق الزجاجة ، والثاني يتعلق بنجاح الحكومة في حل مشكلة مياه الأمطار ونجاحها في وضع استراتيجية محكمة لتصريف مياه الأمطار أيا كانت كميتها ، على أسس علمية ، وأن مسألة غرق الشوارع بمياه الأمطار وحبس الناس في الطرق لن تتكرر في مصر مرة أخرى .
وعلى مدار السنوات العشر الأخيرة ، وكل هذه الأقاويل يتأكد أنها خرافات وخزعبلات سلطوية لتسكين الناس وتطييب خواطرهم ، ويبقى الحال على ما هو عليه ، لا نحن خرجنا من عنق الزجاجة ، بل ازددنا هبوطا إلى قعرها وازدادت حياة الناس بؤسا ، ولا نحن نجونا من حصار مياه الأمطار عند أي هبة ولو خفيفة مثل تلك التي حدثت أمس وأحدثت مشاهد مهولة ، سمعها الملايين ، وعاشها ملايين آخرون ممن ابتلوا بالعيش في العاصمة ، القديمة .
لو فرغ أحد الصحفيين الشبان بعضا من وقته لجمع أرشيف الصحافة القومية الرسمية طوال السنوات العشر الأخيرة في أيام المطر سيجد عبارات متطابقة ، وتصريحات نسخة طبق الأصل من الحكومة ووزرائها ، وكأن هناك درجا مخصوصا لدى كل وزير أو مسئول يتم الاحتفاظ فيه بنسخة فاخرة من التصريحات يخرجها الوزير الجديد عند الحاجة ، والغريب أن هذه التصريحات تكون مصحوبة بميزانيات كبيرة من المال العام تم رصدها ، وتم إنفاقها ، لإنجاز هذا المخطط "العلمي" لإنقاد العاصمة من الغرق في مياه الأمطار ، ولا أعرف أين تذهب مئات الملايين من الجنيهات التي يتم صرفها كل مرة على هذه "البلاعات" ، ومن يحاسب من عليها .
المشاهد التي رآها الناس أمس كانت مروعة ، وخاصة أن كثيرا منها تم تصويره فيديو وفوتوغرافي من أحياء حديثة وراقية ، مثل التجمع الخامس ، واحد من أحدث وأرقى أحياء القاهرة وأكثرها تخمة مالية ، والذي يحتضن مؤسسات وشركات عملاقة ، ويقيم فيه نخبة القوم ، وإذا به يغرق في مياه الأمطار التي استمرت قرابة ساعة أو أكثر قليلا ، ولم تستمر طوال النهار أو الليل مثلا ، لدرجة أن المياه التي لم يتم تصريفها حولت الشوارع إلى برك وأنهار ووصلت إلى زجاج السيارات اقتحمت الفيلات وخاصة "البدروم" وأغرقت الأثاث وخربت كل شيء في طريقها ، وحدث ـ كالمعتاد ـ حبس الناس وأسرهم في الطرق لمدد تصل إلى حوالي ثماني ساعات ، بعضهم بات في الشارع بالفعل ، لأن المياه أغلقت الطرق ، وأنا شخصيا عانيت تلك المأساة مع أسرتي العام الماضي ، لدرجة أن الشبان نزلوا من السيارات وأجروا مباريات كرة قدم ونشاطات ترفيهية أخرى بحكم الإقامة الطويلة في الشارع ، ولكني أفلت هذا العام لأني أخذت الدرس وعرفت كيف تكون تصريحات المسئولين ، فلم أخرج من بيتي ، فالمواطن لا يصح أن يلدغ من جحر واحد مرتين أو أربع ، وإلا فهو "يستاهل" ما يجري له .
مشكلة مياه الأمطار درس صغير ، يعطيك مؤشرا لمجمل حال البلد والدولة والتخطيط والإدارة والرقابة ، البلد تعيش بالفهلوة ، وأكبر مسئول وأصغر مسئول يعرف ذلك ، ومن ثم تكون أولوياته هو رضاء "الكبير" وتنويم "الصغير" ، والدنيا ماشية ، ولا أحد يحاسب أحدا ، إلا إذا كان أحمق وارتكب حماقة كبيرة استدعت التضحية به ، لا يوجد رقابة حقيقية وشاملة وجادة ، لا يوجد برلمان جاد يمكنه أن يستجوب المسئول ويعزله أو يحيله إلى القضاء ، ولا توجد مؤسسات رقابية مستقلة وصاحبة قرار ، فالكل يعرف أن "العين" لا تعلو على الحاجب في بلادنا ، والجميع موظفون أو سكرتارية ، ينتظرون التوجيهات والتعليمات والإشارات ، ومعايير بقاء المسئول أو القيادي لا تتصل بالإنجاز أو النجاح أو التفوق ، وإنما تتصل بالولاء وأمور أخرى لا داعي لذكرها من باب السلامة .
لذلك يتم إهدار المال العام بسهولة ، وتتحول ميزانية الدولة إلى ما يشبه "الجيب المخروم" تضع فيه المال بالمليارات فيهرب بلا نتيجة ، إلا لماما ، وأخطر من ذلك أن هناك من يفكر في أن ينشئ مشروعات بالغة الحساسية والخطورة مثل المفاعلات النووية ، بكل ما تحتاجه من ضوابط وتأمين ومعايير سلامة دقيقة وصارمة ، لأن الهفوة فيها وليس الخطأ يمكن أن يتسبب في دمار يقضي على أرواح الملايين ولعدة أجيال مقبلة ، بينما نحن لا نستطيع أن نحل مشكلة تصريف مياه الأمطار ، هذا كابوس حقيقي كلما فكرت فيه .
أرجو أن تحتفظوا بتصريحات المسئولين اليوم وغدا ، ومانشيتات الصحف القومية ، لأننا سنحتاجها العام المقبل عندما تغرق الشوارع من جديد ، فالاحتفاظ بها مهم من باب تطييب النفوس وتخفيف الصدمة ، والاقتصاد في النفقات لأنه لا داعي لإعادة نشرها من جديد ، فلدينا نسخة معتمدة وكاملة منها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف