ايهاب الحضرى
مسارح «التعليم» تتحدي الأشباح!
بالشمع الأحمر
طالعت الإعلان المُثبّت علي الحائط، وشعرت أن بوابة الحظ انفتحت لي فجأة. قررتُ علي الفور أن أنضم إلي فريق التمثيل بالمدرسة. أخيرا تحقّق الحلم ووقفت علي خشبة مسرح مدرسة الأورمان الثانوية، لأخضع مع زملائي لاختبار أجراه وقتها مدرس كيمياء تولي مسئولية الفريق. وبعد اجتماعين آخرين قررت اعتزال التمثيل نهائيا! لأنني اكتشفت فشلي مبكرا، فقررت ألا أحقق حلمي علي حساب متفرجين يعيشون كابوسا حقيقيا مع كل ظهور لي!
استعادت ذاكرتي تلك الوقائع التي جرت قبل أكثر من ثلاثين عاما، خلال جلوسي منذ أيام في مسرح مدرسة السعيدية. ذهبت تلبية لدعوة تكررت علي مدار عامين، لكن الفضول اجتذبني هذه المرة، عندما علمت أن إدارة العجوزة التعليمية تشارك في مسابقة للمسرح المدرسي بنص بالغ الصعوبة، هو »أرض لا تُنبت الزهور» للراحل الكبير محمود دياب، وكنتُ قد قرأتُه قبل سنوات وأدرك أنه يستعصي علي فرق المحترفين، فما بالنا بفريق من الطلبة الهواة، يقدمونه بالعربية الفصحي التي تُعتبر شبحا للكثيرين منهم.
لحظات الصمت وسط الظلام، منحتني ثواني معدودة من الترقب، بعدها امتلأت خشبة المسرح بالحيوية، وخلال دقائق شعرت أنني انتقلت قرونا إلي الوراء، وعشت أجواء الصراع الثأري بين الحيرة وتدمر. تدريجيا امتزجت بالعرض وأبطاله، الذين حركهم باقتدار المخرج الشاب خالد العيسوي، بعد أن نجح في تحويل بعضهم إلي فنانين علي قدر لا يُستهان به من الاحترافية. من بينهم سارة حمادة، طالبة الثانوية العامة، فقد أدت باقتدار دور الزبّاء ملكة تدمر، التي أصرّت علي الثأر من ملك الحيرة جذيمة الأبرش قاتل أبيها. كانت الفتاة تتحرك علي المسرح بإيقاع فراشة وثبات ممثلة محترفة. الغريب أن مسئولي الإدارة التعليمية أخبروني أن موهبتها لم تكن بنفس الدرجة العام الماضي، لكنها حققت طفرة هائلة بإصرارها، وبراعة المخرج الذي استطاع أن يُفجر كل طاقاتها. لم تكن سارة هي النموذج الوحيد المتميز، فالعرض ضم مواهب أخري مُبشرة، مثل أحمد محمد الذي لعب دور قصير اللخمي وزير ملك الحيرة، وأدت سارة أسامة دور العرافة ببراعة جعلتني لا أصدق أنها طالبة في الصف الأول الثانوي، وفوزي سعيد الذي لعب دور قائد جيش الزبّاء، بالإضافة إلي سلمي محمد وريم عماد ولاما طارق، وكل منهن تُعتبر مشروع مطربة متميزة.
لستُ في مجال تقديم نقد للعرض، لأن ما يشغلني أكثر هو تلك الثروات التي تختزنها مدارسنا، ويهددها نظام تعليمي عقيم جعل اللهاث وراء الدرجات يلتهم أي موهبة، تحت ضغط أولياء أمور اقتنعوا - ولهم العذر - بأن أي هواية ستساهم في تشويه ملامح مستقبل يتمنونه لأبنائهم، لأن الهواية مقبرة للجهد والدرجات!
لهذا أري أن أكثر من يستحقون الشكر هم الأهالي الذين لم يُرهبهم »عفريت» الثانوية وسمحوا لأبنائهم بالمشاركة في هذه المسرحية، وغيرها من العروض التي قدمتها الإدارات المختلفة علي مستوي الجمهورية. فقد ساهمت جرأتهم مع حماس بعض المخلصين من المديرين والموجهين ومسئولي الأنشطة في ضخ دماء جديدة في شرايين الإبداع، وساعدوا في محاربة أشباح الإرهاب بشكل مباشر وعملي.
أتمني أن تمنح وزارة التعليم اهتماما أكبر لرعاية المواهب في مدارسنا، فتدعم أنشطتها التي تعمل عادة وسط بيئة طاردة، حتي يخرج من بين طلابها أدباء ومبدعون وفنانون يدعمون قوتنا الناعمة. وهو حلم ليس مستحيلا، لأن ما شاهدته في العرض الفني يؤكد أن أرضنا الطيبة لاتزال تنبت الزهور، لكن الأهم هو أن نتكفل برعايتها، حتي لا تذبل مبكرا!