الأهرام
جمال عبد الجواد
ليست حربا باردة جديدة
هناك توتر العلاقات بين روسيا وأمريكا، وهناك صراع بين العملاقين على أكثر من جبهة، بما يذكرنا بما شهده العالم فى زمن الحرب الباردة. هناك أيضا الردع النووى الذى يفرض الحذر على الطرفين، فيجعلهما حريصتين على إدارة الأزمات بينهما بشكل سلمى يمنع انفجار مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، وهذا أيضا يذكرنا بما شهده العالم فى زمن الحرب الباردة. إلا أن أوجه الشبه هذه لا تكفى لوصف ما يحدث فى عالم اليوم باعتباره «حربا باردة جديدة»، كما لو كان التاريخ يعيد نفسه. فما يحدث فى عالم اليوم يختلف نوعيا عن زمن الحرب الباردة، والعصر الدولى الراهن هو نظام دولى جديد له قواعد ومخاطر تختلف عما عرفناه من قبل، وعلينا أن نفهمه كما هو، لا أن نفرض عليه تصورات موروثة من أزمنة غابرة.

فى زمن الحرب الباردة كانت هناك إيديولوجيتان، الرأسمالية الديمقراطية والشيوعية، تتصارعان للسيطرة على العالم. ادعت الإيديولوجيتان صلاحية تطبيقهما فى كل بلاد العالم، وتنافست واشنطن وموسكو من أجل الانتصار كل للإيديولوجيا التى يتبناها. لم يعد هناك إيديولوجيات كبرى ذات ادعاءات عالمية فى أيامنا هذه. الشيوعية انتهت تماما؛ والرأسمالية أصبحت النظام الاقتصادى الموحد للعالم كله؛ أما الديمقراطية فقد أصبحت أكثر تواضعا، وأقل غرورا وتعاليا بسبب اتساع نطاق الاستبداد، وبسبب الأزمات التى تواجهها الديمقراطية فى عقر دارها، تحت ضغط الصعود السريع لإيديولوجيات قومية وشعبوية، يمينية ويسارية، وبسبب النتائج الشاذة التى تسفر عنها الممارسة الديمقراطية فى ديمقراطيات عريقة. الصراعات تحدث فى غياب الإيديولوجيا أو فى وجودها؛ لكن وجود الإيديولوجيا يضفى على الصراعات قيمة ومغزي، ويضعها فى سياق له انتظام، يسهل التحليل والفهم والإدارة.

عالم الحرب الباردة هو عالم القطبية الثنائية، ولا يمكن فصل الأمرين عن بعضهما. كان هناك توازن فى القوة العسكرية بين الأمريكيين والسوفيت، ومازال هذا التوازن قائما بين الأمريكيين والروس. الأهم من هذا هو أن توازن الردع النووى الذى كان موجودا آنذاك، مازال موجودا الآن. لكن فيما عدا ذلك فالفجوة بين روسيا وأمريكا أصبحت أكثر اتساعا لصالح الأخيرة. فى عام 1960 كان الاقتصاد الأمريكى يمثل 39.7% من الاقتصاد العالمي، بينما كان الاقتصاد السوفيتى يمثل 19.5%منه، وكانت هذه هى القاعدة المادية التى قام عليها السباق العسكرى والسياسى بين القوتين. دخل الاقتصاد السوفيتى فى فترة ركود طويلة، وعجز الاتحاد السوفيتى عن مواصلة السباق، حتى انهار نهائيا فى عام 1991. أما اليوم فبينما يمثل الاقتصاد الأمريكى 24.5% من الاقتصاد العالمي، فإن اقتصاد روسيا لا يمثل سوى 1.7% منه، ولا تسمح هذه الفجوة الكبيرة بمنافسة شاملة وممتدة بين البلدين، وإن كانت تسمح بالصراع فى مواقع مختارة بعناية فائقة، ووفقا لحسابات فائقة الدقة.

لقد انتهى الزمن الذى احتكر فيه السوفييت والأمريكيون النصيب الأكبر من عناصر القوة فى العالم، ودخل العالم فى مرحلة يتقاسم عناصر القوة فيها عدد أكبر من الأطراف. فبالإضافة إلى الولايات المتحدة، يسيطر الاتحاد الأوروبى على 21.6% من الاقتصاد العالمي، فيما تسيطر الصين على 14.8% منه؛ أما روسيا التى تحتل المرتبة 12 بين اقتصادات العالم، فإنها تأتى تالية لبلاد نامية مثل كوريا والبرازيل والهند.

مازال الأمريكيون والروس يملكون الترسانات العسكرية الأكبر فى عالم اليوم، لكن الصين آخذة فى الاقتراب منهما بسرعة كبيرة. الصين شريك كامل فى معادلة الردع النووي، وهى بالإضافة إلى ذلك آخذة فى تحديث قواتها المسلحة، وامتلاك التشكيلات العسكرية التى تمكنها من الحرب فى مناطق بعيدة عن الحدود، مثلها مثل القوى الكبرى الأخري.

فى زمن الحرب الباردة لم يكن هناك فقط قوتان كبيرتان، ولكن كان هناك أيضا معسكران متصارعان. تمتعت كل قوة عظمى بالسيطرة شبه التامة فى نطاق المعسكر التابع لها، وتنافست مع القوة العظمى الأخرى فيما تبقى من العالم. لم يعد هناك معسكرات فى عالم اليوم. لقد اختفى حلف وارسو؛ أما حلف الأطلنطى فمازال موجودا، ولكنه يجاهد من أجل البحث عن سبب لبقائه. الانقسام الذى حدث بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عندما غزت أمريكا العراق يشير إلى أن الأطلنطى فقد الكثير مما كان له من تماسك ووحدة. تركيا، العضو فى تحالف الأطلنطي، تتعاون فى سوريا مع روسيا وإيران خصوم واشنطن. إنه عالم تعددت وتقاطعت فيه خيوط التحالفات، على عكس ما عرفناه من وضوح وقطعية التحالفات فى زمن الحرب الباردة.

فى زمن الحرب الباردة كانت السيطرة على أى بقعة صغيرة معزولة فى العالم لها قيمتها، على الأقل من باب حرمان الخصم منها. لهذا حاربت أمريكا فى فيتنام، وحارب السوفييت فى أفغانستان، وتدخلت كوبا عسكريا فى أنجولا. سباق القوتين الأعظم للفوز بالنفوذ فى بقاع العالم البعيدة أتاح للدول الصغيرة فرصة غير مسبوقة للتلاعب بالقوتين العظميين وانتزاع المكاسب منهما. مرحلة صعود مصر الناصرية هى المرحلة التى أجاد فيها جمال عبد الناصر التلاعب بالقوتين العظميين دون أن ينحاز كلية لأيهما، أو يقع ضحية لصراعهما.

فى زمن الحرب الباردة دفعت القوى العظمى الأموال والمساعدات لإرضاء الحلفاء الصغار، فى ممارسة لم تكن معروفة فى النظم الدولية السابقة على ذلك. الريع الاستراتيجي، الذى حصلت عليه الدول الصغيرة مقابل الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، أو لمجرد عدم الانحياز للطرف المنافس، هو ابن شرعى للحرب الباردة، لم يكن معروفا قبلها، وهو آخذ فى الاختفاء بعدها؛ وما الصعوبات التى تواجه مصر لمواصلة الحصول على المعونة الأمريكية سوى انعكاس لذلك، وما التلكؤ الروسى فى إعادة تسيير رحلات الطيران إلى مصر سوى انعكاس لذلك أيضا.

عالم الحرب الباردة كان فيه الكثير من الصراعات، ولكنه كان عالما محكوما بالقواعد الصارمة التى نظمت العلاقات بين القوتين العظميين. عالم اليوم فيه عدد أقل من الصراعات الكبري، لكن فيه قدرا أكبر من الفوضي. عالم اليوم يعانى من أزمة إدارة وحكم وتوجيه، بسبب تعدد القوى الفاعلة، وبسبب غياب بوصلة تحدد الاتجاه، على العكس تماما من عالم الحرب الباردة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف