الأهرام
سامح فوزى
البحث عن العدالة الثقافية
الثقافة لها شجون عديدة، أبرزها فى رأيى الحاجة إلى العدالة الثقافية، بمعنى أن تتاح الخدمة الثقافية لكل مواطن أيا كان مستواه الاجتماعى أو انتماؤه الجغرافى أو شريحته العمرية. فقد أدى غياب العدالة الثقافية إلى أمراض اجتماعية وسياسية وثقافية، أبرزها شيوع التطرف، والفقر الذهنى، وعدم القدرة على تطوير نوعية الحياة. لا نجد هذه الظاهرة فى المجتمعات المتقدمة.

أسباب هذه الظاهرة متعددة. هناك سبب «جغرافى» نابع فى الأساس من حالة عامة تستأثر فيها العاصمة والمدن الكبرى بالخدمات الثقافية- أسوة بامتيازات اقتصادية أخرى- على حساب القرى والمدن الصغيرة. بالطبع الثقافة ليست استثناء، فالتجاهل العام الذى عانت منه بعض المناطق الجغرافية يشمل مجالات عديدة من بينها الثقافة. وهناك سبب «عمرى» يتمثل فى احتكار أجيال بعينها للثقافة - إنتاجا وجوائز- ومن خلالها يتم تدوير الفرص الثقافية فيما يشبه الدوائر المغلقة التى عادة يصعب كسرها إلا بجهد كبير من مبدع شاب. وهناك سبب «طبقى» ناتج عن ندرة وارتفاع ثمن الخدمة الثقافية مما يؤدى إلى اقتصارها على شريحة اجتماعية معينة دون غيرها.

بالطبع الدائرة ليست مغلقة على هذا النحو. هناك مبادرات استطاعت خلخلة غياب العدالة الثقافية سواء عبر مبادرات شبابية ثقافية خاصة أو عامة فى المسرح أو الغناء أو الإبداع الأدبى، وصار لها جمهور عريض، وكذلك خبرة الحراك السياسى فى السنوات الماضية أدت فى احدى نتائجه إلى خلخلة «السلطة الأبوية» التى كانت تحول دون بروز الشباب فى المشهد العام، وهيمنة أفكار معينة كانت عصية على النقد. ويلاحظ كذلك أن هناك تجارب فى النشر على المستوى الشعبى مثل مشروع «القراءة للجميع» أو اتاحة الأعمال الثقافية عبر شبكة الانترنت ساعدت على كسر الهيمنة الطبقية أو الجيلية على تداول الانتاج الثقافى بدرجة ما. هذه التجليات مهمة فى توسيع نطاق تداول العمل الثقافى، وكسر الحواجز الجغرافية والجيلية والاجتماعية التى تحول دون تدفقه، ولكن يحتاج الأمر إلى مزيد من الأفكار.

أولا: لا يزال التعليم العامل الأساسى فى التكوين الثقافى للنشء والشباب، وبالتالى فإن زيادة الجرعة الثقافية فى المقررات الدراسية تسهم بصورة أساسية فى نشر الثقافة. فقد عرفت أجيال متعاقبة طه حسين والعقاد وغيرهما من خلال الكتاب المدرسى، والآن هناك من يطالب بتضمين الكتب المدرسية مزيدًا من الأعمال الأدبية، والشعر، وآخرها الدعوة إلى وضع شعر عبد الرحمن الأبنودى فى المقررات الدراسية، وهو ما رحبت به وزارة التعليم.

ثانيا: تعدد مستويات النشر ما بين فاخر واقتصادى، وهى مسألة ينبغى التوسع فيها أسوة بما تفعله دور النشر العالمية. هناك أعمال ثقافية تطبع بطريقة فاخرة، مما يستتبع ارتفاع ثمنها، هذه يمكن طباعتها أيضا بتكاليف منخفضة، تباع على نطاق واسع بسعر أرخص للجمهور العام. ينبغى أن يكون ذلك جزءا من اقتصاديات النشر، كما يحدث فى دور النشر الكبرى، وقد تتجه الحكومة فى إطار حرصها على نشر الثقافة إلى دعم دور النشر الخاصة فى نشر بعض الأعمال الثقافية المهمة سواء بنشرها عن طريق مشروع عام مثل القراءة للجميع أو تقديم بعض المزايا الضريبية لدور النشر التى تقوم بذلك من خلال آليات معينة تضمن نشر أعمال ثقافية متفق عليها، بعدد نسخ معين، وطريقة توزيع تضمن وصولها إلى مختلف أنحاء البلاد.

ثالثا: وضع خطط زمنية لإنشاء مؤسسات ثقافية فى مختلف المحافظات، وفى الوقت نفسه تقديم مزايا للقطاع الخاص الذى يعمل فى مجال الثقافة، وكذلك مؤسسات العمل الأهلى التى تقدم على انشاء وإدارة مؤسسات ثقافية فى أماكن نائية أو فقيرة أو لا توجد بها خدمات ثقافية. إذا كانت الحكومة تقدم مزايا ذ أيا كانت- لمستثمر ينشئ مشروعا اقتصاديا، وهى بالتأكيد مسألة مهمة، فإنه بنفس المنطق من الضرورى أن تقدم مزايا لمستثمر يريد أن ينشئ مشروعا ثقافيا، تضمن أن يكون من أنشطته تقديم خدمات بأسعار معقولة للجمهور العام.

رابعا: الاتجاه إلى الإدارة الاقتصادية للمؤسسات الثقافية المملوكة للدولة، وذلك من خلال حسن إدارة الموارد القائمة، والافادة منها على أفضل وجه، والسعى إلى تطويرها بما يوفر لها موارد يمكن استخدامها فى التوسع فى تقديم خدمات عامة للجمهور بأسعار مناسبة. يأتى فى هذا السياق تطوير المكتبات العامة بحيث تضم بالإضافة إلى عملها الأساسى مساحة لمناقشة أعمال فكرية أو علمية، ومقهى ثقافيا، وقاعة لعقد ندوات أو تقديم أعمال فنية، يسرى هذا الأمر بالنسبة لقصور الثقافة، والبيوت الأثرية المغلقة التى يمكن تطويرها واستخدامها ساحات ثقافية للقراءة، والإبداع الفنى، الخ. وقد يكون للقطاع الخاص دور فى ذلك من خلال ضوابط معينة تحافظ على هذه الأماكن من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمان تقديم خدمات ثقافية للجمهور العام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف