الأهرام
سناء البيسى
«الكـــردى المخذول» رواية الدولة السراب فى الوطن المستحيل
الخبر القادم من مطار القاهرة الدولى هذا الأسبوع يقول «استئناف حركة الطيران بين القاهرة وأربيل المدينة الواقعة فى إقليم كردستان بالعراق بعد توقفها منذ سبتمبر الماضى، حيث تنظم شركة مصر للطيران ثلاث رحلات أسبوعية فى أيام الاثنين والثلاثاء والجمعة، وكانت قد توقفت بين المدينتين بناءً على قرار سلطة الطيران المدنى العراقى عندما أعلنت الحكومة العراقية وقف الرحلات الدولية إلى إقليم كردستان ردًا على استفتاء الاستقلال الذى أجرته سلطات الإقليم».. ذلك الاستفتاء الذى كان بمثابة رحلة بحار مغامر فى سفينة ذات أشرعة متأرجحة تمخر عباب أمواج عاتية وسط ليال وويلات سود تعيشها المنطقة، فالإعلان عن الاستفتاء جاء فى وقت يعيش فيه العراق حربًا ضروسًا ضد تنظيم داعش الذى كلفت الحرب عليه ما يقرب من مائة بليون دولار، ووقت إعلان دونالد ترامب يوم 6 ديسمبر 2017 اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل واتخاذ قرار بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس... وأيضًا بعدما وضعت حكومة العبادى فى بغداد اليد على الورقة الأكثر صعوبة «كركوك»، فإن مسعود بارزانى الذى كان قد حدد مبادرة الاستفتاء فى 25 سبتمبر 2017 ليقره أعضاء البرلمان الكردستانى بأغلبية ساحقة ــ فهناك 65 قالوا نعم من أصل 68 حضروا الجلسة ــ حالمًا بدولة كردية فى شمال العراق أسوة بدولة جنوب السودان كما زيَّن له العم سام، فإنه من بعد خذلانه له كما جاء على لسان نائب وزير الخارجية الأمريكية جوزيف بنكنتون فى 15 يوليو 2017: «إن الوقت غير مناسب لإجراء
الاستفتاء فى إقليم كردستان، ونرى أنه يزيد من عدم استقرار العراق وندعو الجانبين: حكومة بغداد والسلطة الكردية، إلى العمل لحل الخلافات بينهما عبر الحوار، مع استعداد الإدارة الأمريكية للمشاركة فى الحوار».. بما أدى للتيقن من قول الرئيس السابق مبارك بأن «المتغطى بأمريكا عريان» من أجل ذلك كله جاء قرار مسعود بارزانى بالتنحى.. حول تلك الأزمة التى نشأت بين حكومة العراق وأكراد العراق نتيجة قرار بارزانى بالاستفتاء وبعدها بالتنحى، مع تاريخ الأكراد ودمائهم الكردية فى الشرايين العربية فى غالبية الدول الناطقة بالفصحى ساقها الكاتب الصحفى القدير الشهير ــ صاحب العشرات من المؤلفات على مدى نصف قرن من الكتابة المتجردة من أجل التضامن العربى فؤاد مطر فى كتابه الذى أرسله إلىّ مشكورًا والصادر منذ يومين فقط فى بيروت بعنوان «الكردى المخذول» فى رواية الدولة السراب فى الوطن المستحيل، وترجمتها بالكردية «كوردى ده ستخه روكراو» الذى أهداه للشعب الفلسطينى ـ المخذول الآخر ــ وسائر المخذولين فى الأمتين العربية والإسلامية الآتى دورهم مادام العم سام يمحو فى الليل معسول الكـلام الذى يقوله فى النهار، ومن دون أن يرف له جفن.. وللتنبّه من شرك الخاذلين ونفاقهم، يطلب مطر التأمل فى قول الرسول صلى اللـه عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان»، وقول الإمام على بن أبى طالب رضى اللـه عنه شعرًا: «يعطيك من طرف اللسان حلاوة/ ويروغ منك كما يروغ الثعلب»، وقول ميكافيللى: «أربح الناس سهمًا فى هذه الحياة أقدرهم على اصطناع الملق وتلوّن الوجه».



على مدى 13 فصلا فى كتابه «الكردى المخذول» يمهد مطر لكل منها بآية قرآنية أو بحديث نبوى أو بشعر عربى أو بقول مأثور، فمع الفصل الأول بعنوان «الاستفتاء الذى حرر البرلمان المعطل» يستعين بقول أبوالطيب المتنبى «ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن» وجاء فيه بعض مما قاله مسعود بارزانى أمام الجمع الكردى الحاشد بعشرات الألوف فى أربيل فى 22 سبتمبر: «أقول للجهات والدول التى تهدد كردستان منذ مائة عام وأنتم تعاقبوننا، ألم تشبعوا من معاقبة شعبنا؟ إذا شئتم أن تعاقبوا أحدًا فتعالوا وعاقبونى شخصيًا لا شعب كردستان. إن الكرد على استعداد لدفع أى ثمن مقابل الحرية»... وفى الفصل الثانى بعنوان «الأصدقاء يبتعدون والكرد ينقسمون» لا يجد فؤاد مطر أبلغ من التعقيب بقول أبوالعلاء المعرى «ثوب الرياء يشف عما تحته.. فإذا التحفت به فإنك عارى»، ويأتى فيه الكاتب بما يتبين منه موقف أمريكا المنسحب من الدعم على لسان السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة «نيكى هايلى» من خلال قولها يوم الأربعاء 19 يوليو «إن تبعات قد تترتب على الاستفتاء قبل تثبيت الجهود المتعلقة بهزيمة داعش.. لكننا فى الوقت نفسه نُقدر التطلعات المشروعة للأكراد».. ومع العنوان الثالث «بريطانيا بين التفهم والتحذير» يستشهد مطر بالمثل العربى «ومن سمع إلى النصيحة نجا من الفضيحة» بعدما وصل إلى أربيل وزير شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى الحكومة البريطانية «أليستر بيرت» لإبلاغ حكومة إقليم كردستان: «..ونحذر من المقارنة بين الإقليم واسكتلندا ـ فى عملية انتخابات الانفصال ــ لاختلافات تتعلق بالوضع والظروف والتطورات التاريخية بين المنطقتين»..

ويأتى الجزء الرابع «المحاولة الأخيرة قبل تشييع جلال طالبانى» ليُطرِّز المؤلف عنوانه بشعر حافظ إبراهيم على لسان الأكراد: «كنا قلادة جيد الدهر فانفرطت/ وفى يمين العلى كنا رياحينا»، وفيه تشاء الأقدار أن يعيش جلال طالبانى أحد الزعيمين الكرديين إلى جانب مسعود بارزانى على مدى أسبوع بهجة الأكراد بالاستفتاء من أجل الاستقلال، ويلقى وجه ربه من قبل أن يرى ويعايش بقية المشهد المأساوى الذى انتهى به أمر الاستفتاء خذلانًا إقليميًا ودوليًا وخصومة حادة مع الحكومة العراقية، وبعد رحيله بدأ صراع أجنحة فى حزبه حول من يترأس الحزب (الاتحاد الوطنى الكردستانى) ووصل الصراع أوجه، وكانت زوجة طالبانى رقمًا صعبًا فيه، حيث إنها حالت بأسلوب ما دون انتخاب رئيس للحزب طوال سنوات مرض زوجها يحل محله بعدما ساء وضعه الصحى نتيجة الجلطة الدماغية إلى حد العجز»... وفى الجزء الخامس «اشتدت كثيرًا لتنفرج قليلا» يأتى قول الإمام على بن أبى طالب رضى اللـه عنه معقبًا «الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر على ما تحب» الذى فيه لم يتراجع مسعود بارزانى عن قراره بإجراء الاستفتاء فى موعده 25 سبتمبر 2017 والذى سبق إعلان نتيجته قول بارزانى فى مؤتمر صحفى: «الاستفتاء لا يعنى أن الانفصال سيحدث غدًا، ولا أننا سنعيد ترسيم الحدود.. إذا كان التصويت بنعم، فسنحل مشكـلاتنا مع بغداد سلميًا. إن الإقليم ليس مسئولا عما يسمى بتقسيم العراق، بل السياسات الخاطئة هى المسئولة».. ومع اليوم الثالث من الاستفتاء يبدأ الوجع الكردى بعدما تلفح وجه مسعود بارزانى مواقف الخصوم (حكومة العراق، وإيران، وتركيا، وسوريا) والأصدقاء (الإدارة الأمريكية، والرئيس بوتين والاتحاد الأوروبي) وكان الاتحاد الأوروبى قد برأ ذمته من خلال بيان جاء فيه بأنه «دعا أكثر من مرة إلى الامتناع عن إجراء استفتاء من جانب واحد، بخاصة فى مناطق متنازع عليها، والاتحاد يأسف لعدم استجابه هذه الدعوات»..
أما الفصل السادس «كركوك: محنة الانسحاب ونشوة الاستعادة» فيأتى فيه مشهد رفع علم العراق على سارية محافظة مدينة كركوك وإنزال علم كردستان ثم إزالة صور مسعود بارزانى، مطابقًا لقول الشاعر الكردى «فقى تيران» 1302 ــ 1375 «أنا من تكالبت عليه الهموم. أنا من جرحه القهر»... وفى الفصل السابع «فرنسا الماكرونية: مراضاة.. وعدم إغضاب» يأخذ الموضوع الكردى حيزًا من تفكير الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون قبل الترؤس وبعده حيث ترى فرنسا الأخذ بأمل إيجاد تسوية متوازنة مع احترام الدستور بكل مواده، ولا يجد فؤاد مطر هنا أدق ولا أبلغ من قول جان جاك روسو «علينا أن نقبل أصدقاءنا على علاتهم»...
ومع عنوان الفصل الثامن «دقت ساعة التنحى الذى لابد منه» بعدما باتت محافظة كركوك فى قبضة الدولة العراقية وقوات الميليشيات المناصرة لها بعد انسحاب القوات الكردية منها ــ وتعد كركوك خامس أكبر محافظة عراقية، ومن أهم المحافظات الشمالية بسبب ثروتها النفطية الهائلة، وتقدر كمية النفط المخزون فى المحافظة بأكثر من 10 مليارات برميل، بقدرة إنتاجية تزيد على 500 ألف برميل يوميًا، وتتميز الحقول بالجودة والغزارة، ويعتبر نفطها من الأنواع الخفيفة القياسية، وفى آخر إحصائية لشركة نفط الشمال صدرت فى يوليو 2017 أن عمليات الإنتاج وصلت إلى 300 ألف برميل يوميا عن طريق ميناء جيهان التركى، بينما يتجاوز إنتاج الحقول الأخرى 200 ألف برميل يوميًا ــ وهذا الفصل الثامن فى كتاب «الكردى المخذول» كان مدلوله بعدما كثرت الروايات حول الاعتداءات التى تعرض لها الكرد فى المثل الكردى «أن تكون ثورًا ليوم واحد أفضل من أن تكون نعجة لمئة عام»...
وليس أبلغ من قول الرسول صلى اللـه عليه وسلم «يَسِّرا ولا تُعسِّرا.. وبشِّرا ولا تنفرِّا.. وتطاوعا ولا تختلفا» للتعليق على عنوان الفصل التاسع «مصائب كردية.. وفوائد تركمانية» الذى جاء حول التهجير القسرى لمدنيين أغلبهم أكراد، وتدمير ونهب منازلهم وشركاتهم فى شمال العراق، وحول اجتماع رئاسة البرلمان الكردى مع مسئولى القنصليات الأجنبية المعتمدة فى كردستان وإبلاغهم على لسان «بيكرد طالبانى» الأمينة العامة لبرلمان الإقليم: «إن نوايانا حسنة لحل المشكـلات القائمة مع بغداد، وقد طالبنا بممارستهم للضغط على الحكومة الاتحادية للتجاوب مع نداءات الإقليم بشأن التفاوض وإنهاء المشكـلات، إذ إن حكومة الإقليم تقدمت بخطوات متعددة فى هذا المجال، وعلى الجانب الاتحادى أن يتقدم بدوره بخطوة لتحقيق اللقاء المرتقب»... وكان عنوان الفصل العاشر «اثنين الحسم بعد اثنين الاستفتاء» فقد أنتج يوم الاستفتاء الاثنين 25 سبتمبر 2017 عاصفة عاتية على الشعب الكردى ليأتى يوم الاثنين 20 نوفمبر من نفس العام ليكون بمثابة يوم الحسم دستوريًا وقضائيًا، حيث اعتبرت المحكمة قرار الاستفتاء «لا سند له من الدستور ومخالفًا لأحكامه، وبناءً عليه إلغاء آثاره والنتائج المترتبة عليه كافة وتحميل المدعى عليهم إضافة كافة المصاريف وأتعاب المحاماة وأتعاب المدعين فى الدعاوى» وهذا الفصل كان أبلغ قول حوله لأبى الطيب المتنبى:
قــد حـاكموها والمنايا حــواكم فما مات مظلوم ولا عاش ظالم
وكان عنوان الفصل الحادى عشر «ماراثون الإنذارات والتحديات والمساعى» وفيه إرسال حكومة العبادى يوم 29 يناير دفعة من الأموال 250 مليار دينار (أى حوالى 210 ملايين دولار) من شأنها تخفيف ضائقة الموظفين فى إقليم كردستان نتيجة عدم دفع الحكومة الاتحادية منذ أكثر من ثلاث سنوات حصة الإقليم من الموازنة، إلى جانب اللقاء الذى تم فى الفاتيكان يوم السبت 13 يناير 2018 بين البابا فرنسيس ورئيس حكومة الإقليم الآن «نيجيرفان بارزانى» الذى قدَمَ للبابا عرضًا للوضع الراهن فى المنطقة مضيفًا «إن حكومة أربيل ورغم أوضاعها الصعبة، فإن قلبها وأبوابها كانت مفتوحة لاستقبال النازحين، وبذلت جهودًا جدية من أجل إعادة المسيحيين إلى مناطقهم، وحاولت جاهدة بالتنسيق مع كنائس الإقليم ألا يرحل المجتمع المسيحى عن بلده».. هذا ويجد العراق بجناحيه العربى والكردى مناسبة مشاركة كل منهما فى «منتدى الاقتصاد العالمى» بمنتجع دافوس السويسرى فرصة طيبة للتشاور فى الوضع المنقوص الاستقرار بينهما، ويتم لقاء رئيس الحكومة الاتحادية حيدر العبادى والثنائى المتزعم إقليم كردستان رئيس الحكومة نيجيرفان بارزانى ونائبه قوباد جلال طالبانى الذى جدد فيه نيجيرفان التزام الحوار لحل الأزمة وفقًا للدستور، موضحًا أن الإقليم يمر بأوضاع حساسة، هذا بينما فى أربيل يقول مسعود بارزانى لأعضاء كتلة حزبه فى برلمانه الاتحادى «إن الاستفتاء على الاستقلال كان قانونيًا ودستوريًا، وأن خرق الدستور وأسس التوافق والشراكة وقطع أرزاق الشعب الكردستانى هو الذى حض الشعب على إجرائه»، ومن هنا فبين اللقاء الذى تم بدافوس مع نيجيرفان وما قاله مسعود فى أربيل يظل الخذلان ضاغطًا على تفكيره، ليأتى حديث رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم هاديًا وناصحًا: «لا تقاطعوا (لا يهجر بعضهكم بعضا) ولا تدابروا (لا يدبر بعضهم عن بعض هجرانا وإعراضا) ولا تباغضوا (لا يحقد بعضكم على بعض) ولا تحاسدوا وكونوا عباد اللـه إخوانا (أى متحابين متراحمين)»..
ويتأمل صاحب «الكردى المخذول» فى الفصل الثانى عشر «قبل الاستفتاء وبعده» الذى يقدمه بقول ابن خلدون: «المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب» وذلك بعد حكم القضاء فى أعلى مستوياته (المحكمة الاتحادية العليا) الذى بموجبه قُضى الأمر بعدم دستورية الاستفتاء الذى فاز من حيث الاختيار الشعبى مقابل خذلان فرضته المسايرات من جهة، والمخاوف من ولادة كيان يؤذى خواصر المثلث الأكثر ارتباكًا فى المنطقة ــ العراق وإيران وتركيا ــ فضلا عن عدم نضوج خطة أو مخطط الدول الكبرى ذات القدرة على فرز الكيانات إلى دويلات، وما لم يأخذه مسعود بارزانى فى الاعتبار هو أن الدولتين المحاديتين له تركيا وإيران إلى جانب سائر دول العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا لن تسمح جميعها بقيام دولة كردية مستقلة ــ فإذا ما قامت دولة (كردستان العراق) تصبح الدعوة تلقائيًا إلى (كردستان تركيا) وكذلك دولة (كردستان سوريا) وبعدها (كردستان إيران) و(كردستان أرمينيا) و(كردستان أذربيجان) و(كردستان بلوشستان) و(كردستان لبنان) و(كردستان أفغانستان) وهذه جميعها يمكن تسميتها بالاتحاد الكردستانى الذى يضم كل هذه الدول والدويلات على نحو ما كان حال الاتحاد السوفيتى الذى انفرط عقده على يدى «جورباتشوف» الذى خلفه «يلتسين» وخلف الخلف «فلاديمير بوتين» الذى تحوَّلَ إلى رقم صعب فى معادلة المصير لكل من إيران وسوريا ــ ومن أصداء قرار المحكمة ما حفزَ الكاتب فؤاد مطر المتابع للشأن العراقى بجناحيه العربى والكردى منذ خيار الحكم الذاتى لتحويل خاطرة لم تفارق خياله قبل الاستفتاء وبعده إلى فكرة طالما تمناها لو يؤخذ بها «لوطنه لبنان المكتوى بخيارات وحالات فيها الكثير من الظلم له والذى لا أمان ولا استقرار ولا ازدهار ولا طمأنينة إلا بإعلانه بلدًا محايدًا حاله من حال كيانات أوروبية حقق اعتماد الحياد هوية لها طمأنينة تشمل الهويات والتناقضات والمذاهب».. وخلاصة الفكرة لدى فؤاد مطر هى «أنه لو أخذ مسعود بارزانى بصيغة موناكو مع بعض التعديل والتشذيب وإضفاء الخصوصية الكردية والعلاقة المتجذرة بين عرب العراق وأكراده وسائر أطياف القوميات والديانات، بدل اعتماد النقطة الأعلى من الطموح استنساخًا لما آلت إليه تطلعات جنوب السودان، لكان ربما وفر على نفسه وعلى أبناء الشعب فى إقليم كردستان الكثير من الخسران الذين هم فى غنى عنه»، ويستحضر مطر من الجغرافيا والتاريخ ما يضيف المزيد من الصواب إلى رأيه «موناكو إمارة محكومة من آل غاريمالدى منذ عام 1297 عدا فترات بسيطة نتيجة ظروف استثنائية، وتقع على تلال مشرفة على البحر الأبيض وإيطاليا اللتين تشكـلان حماية لها علمًا بأنها ليست مستهدفة من قوى خارجية، وتبلغ مساحتها أقل من مائة كيلومترمربع، أما عن عدد سكانها فأقل من نصف مليون نسمة الأمر الذى يجعلها الدولة الأكثر كثافة سكانية فى العالم، إلا أن ذلك لا يشكل عقدة فى نفس أهل هذه الإمارة ذات الحكم الملكى الدستورى والمعترف بسيادتها بموجب معاهدة أبرمتها الإمارة مع فرنسا عام 1861 بموجبها تحترم فرنسا كما سائر دول العالم سيادة موناكو فضلا عن أن سياستها الخارجية مستقلة، وحيث إن هذه الإمارة لا تحتاج إلى جيش ولا أعداء لها فإن الذى يصيبها إنما يصيب فرنسا التى على عاتقها، وبموجب المعاهدة مسئولية الدفاع عن الإمارة.. وليست كردستان بعيدة الشبه عن موناكو قبل أن تضع نفسها على جدول الدول الناشئة فى العالم.. كردستان مثالية للسياحة وإن كان لا بحر لها، وفى استطاعتها أن تكون قبلة المستثمرين العرب والأجانب.. ويصعب على المرء التكهن بالموانع التى حملت مسعود بارزانى على عدم الأخذ بصيغة (موناكو كردية) تحقق للشعب الكردى استقرارًا ورفاهية وطمأنينة وسيادة غير سياسية، وحيادًا يقى الكيان الكردى شرور الصراعات على أنواعها، فضلا عن أن هذا الكيان ربما يرتأى المجتمع الدولى اختيار عاصمته (أربيل) مقرًا لمنظمة دولية اختصاصها معالجة الأزمات فى المنطقة، كما أن هذا الكيان بحياده المصان دوليًا سيصون العراق العربى من مؤامرات الهيمنة الإيرانية، وتوأمها الهيمنة التركية وذلك لأنه من خلال عدة نقاط حدودية هو بوابة العبور للدولتين المسكونتين بالأحلام الإمبراطورية التوسعية: إمبراطورية الطاووس الفارسى، وإمبراطورية السلطان التركى.. إن (موناكو كردية) حلمٌ وحلٌ فى الوقت نفسه».
ويأتى «كـلام عراقى يحنِّن وكـلام كردى يُجنِّن» عنوانا للفصل الثالث عشر فى أحدث كتاب عن الأكراد الصادر منذ أيام يقتبسه مولفه من قول الإمام الغزالى فى كتابه (تهافت الفلاسفة): «الكـلام اللين يُلين القلوب التى هى أقسى من الصخور.. والكـلام الخشن يُخشِّن القلوب التى هى أنعم من الحرير» وقد تمثَّلَ خشن القول فيما قاله بارزانى فى مقابلة مع شبكة الـBBC بأن «الإقليم سيرسم حدود دولته المستقبلية، إذا رفضت بغداد التفاوض حول الحدود والمياه والنفط»، وحول المحاذير الدولية من تداعيات الخطوة تساءل «متى تمتعنا بأمن واستقرار هذه المنطقة كى نخشى من فقدانه؟ ومتى كان العراق موحدًا كى نخشى من تفتت وحدته؟ هؤلاء الذين يزعمون ذلك يبحثون فقط عن مبررات لنتراجع عن مطلبنا».. مطلب الاستقلال الذى لم ينله مسعود بارزانى باستفتائه، لكن التاريخ سيحكم على هذا الجندى المغامر ــ أو المغوار ــ إما أن يعذر أو لا يعذر، والذى كان عند اتخاذ قرار إجراء الاستفتاء فى السنة الأولى من عقده السبعين، فهو من مواليد 6 أغسطس 1946 حيث تزامن مولده مع انهيار محاولة والده (الملا مصطفى البارزانى) إقامة دولة كردية عام 1947 مقرها «مهاباد» لم يكتب لها فرصة البقاء أكثر من أربعة أشهر، عاد بعدها مع عدد من قوات البشمركة إلى الاتحاد السوفيتى محاولا بدعم من الكرملين مساعدته على معاودة إنشاء الدولة لكن سعيه قوبل بالخذلان، ليقطع الابن مسعود دراسته المتوسطة ليلتحق فى الخامسة عشرة بالبشمركة التى يقودها والده ليشارك بعد تأهيله سياسيًا وهو فى الثالثة والعشرين فى مفاوضات مع النظام العراقى أثمرت لاحقًا اتفاقية الحكم الذاتى للأكراد.. وتأتى انتفاضة الكرد فى مارس 1991 ضد نظام الحكم البعثى الذى كان يترنح فى أعقاب (عاصفة الصحراء) التى قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقى، وما تلا ذلك من ملاذات آمنة تحت حماية دولية فى مناطق كردية لإعادة مليون كردى إلى ديارهم كانوا عالقين فى الجبال على الحدود مع تركيا وإيران، وحَوَّلَ الكرد تلك الملاذات إلى نواة كيان قوى أجريت منه انتخابات أسفرت عن برلمان كان أول قرار له إعلان ذلك الكيان إقليمًا فيدراليًا حتى جاء مجلس تأسيس عراقى فى 2005 ليقر دستورًا جديدًا للعراق يعترف رسميًا بإقليم كردستان الذى قرر برلمانه البقاء الحر الطوعى جزءا من العراق بضمان التزام الدستور.. ويرحل الأب «الملا مصطفى البارزانى» بعد مرض طويل فى أمريكا ليتوارث الأبناء والأحفاد الحزب الكردى حيث يجدون فى الدعم الأمريكى لهم بعد إسقاط نظام البعث فرصة لكى يعاودوا بقيادة مسعود ــ الذى بات سبعينيا ــ السعى من أجل تحويل الحكم الذاتى إلى دولة مستقلة، لكنه لم يدرك ما تمناه، بل لقد عادت أحوال الإقليم من بعد الخذلان إلى ما تحت الصفر.. ولا يجد فؤاد مطر فى ضوء «حرب الاستفتاء» بالنسبة إلى العراقى العربى والعراقى الكردى ما يصلح لهما قولا وفعلا أعطر من الآية الكريمة «ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور» يجاورها قول الرسول صلى اللـه عليه وسلم: «ألا وخيرهم بطئ الغضب سريع الفئ. ألا وشرهم سريع الغضب بطئ الفئ»..
وليس ما جرى للكرد هناك هو نهاية المطاف، فأواصر الدماء والقرابة ممتدة ما بين الأكراد وأوطان العرب فى مصر ولبنان وسوريا والعراق، وكم من عرب من نتاج الآباء الكرد والأمهات العربيات، وفى مصر المحروسة بالذات يذكر فؤاد مطر: «إن مؤسس مصر الحديثة محمد على باشا من أصل كردى وأنه من مواليد ديار بكر، ومن بين المصريين من أصول كردية أيضا لجهة الأمهات أو الجدات أحب قُراّء المصحف الشريف إلى نفسى الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأحد أكثر الناس حضورًا فى وجدانى محمد حسنين هيكل.. كذلك الشيخ محمد عبده ورائد الثورة من أجل المرأة قاسم أمين وأيضا عباس العقاد ونجيب الريحانى ومحمود تيمور، والتشكيليان المتألقان أدهم وانلى وشقيقه سيف.. ولو أننى سعيت فى هذا السبيل الذى أشير إليه لتبين لىّ أن فى المحروسة الألوف من ذوى أصول كردية، ذلك أن علاقة الكرد مع المصريين تعود إلى الزمن الفرعونى»..
و..أمسك بالخيط الذى أعطانيه خبير الفسيفساء العربية الكاتب القدير فؤاد مطر لأدوُر فى فلك البحث والحفر والتفتيش والتنقيب والاستقصاء والاستنباط واستجلاء طبقات التربة ولحاء الأشجار وغضاريف المحار، والذهاب للأصول والجذور والروافد والأهل والجيران والمعارف والخلان وشجرة العائلة وترتيب السلالات، للبحث فى دمائى عن نزعة كردية، أنا القادمة من خلطة دقهلية على شعرة قليوبية فتأتى التحاليل الكوزموبوليتانية القدرية بأنى مصرية فرعوية جدى «بتاح محب» والخالة «تى» وتانت «نفرتيتى» هبت علينا رياح موسمية تحمل إلينا تباعًا غزوات يونانية وبربرية واغريقية وانجليزية، وفرنسية من جراء الغزوة النابليونية التى ارتدى فيها نابليون القفطان والعِمة وتزوَّج فيها صارى عسكره جاك فرانسوا مينو الذى أصبح عبداللـه باشا، زبيدة ابنة رشيد التى أنجبت له ولده سليمان مراد.. وعندما كنا نتفاخر كذبا وبهتانا من باب التمسح بالطبقة العليوى، بأن ساكنة السلاملك فى شارع المبتديان تيتة التركية بشهرة مطبخها كفتة داوود باشا وكِشك الأباظية والشركسية والحلو ألمظية، وعمو خليل أغا، وزوج الأخت «أنشتة» وطنت شويكار هانم وتيزة جُلفدان وأبلة باكينام وأبيه حشمت بك وكتخدا أفندى لم نكن نذهب بعيدًا فى مسألة الجذور ــ رغم العيون السود والبشرة الخمرية ورجل أوروبا المريض ــ فقد تكون عندما ندوّر على أصل الأصل كردية!

فـــريد الأطـــرش

آدى الربيع عاد من تانى حيث لا يأتى الربيع إلا بصوته الشاجى ليؤاخى موسم الزهر والخيال والحب والوجد وأبيات الهيام وأشعار الغرام والبهجة والألوان والتفتح وعودة الأوراق الخضراء لسيقان الجفاف، وانبثاق البراعم فى الأرض الجرداء، وشدْو الطير فوق الأغصان، وانحسار الغطاء للكشف عن مكنون البهاء، وانكسار هياج الموج لتجرى الموجة الهوينى وراء الموجة عايزة تطولها، ونسيم الهواء يُمشّط رءوس الحسان، ودعاء الكروان فى سموات الصفاء، ومسك الليل يعطر مسالك الليل، وأرجوحة العشق تسمو بالعاشقين، والحب الدفين تفضحه عيونه، واشتقت لك وأنت وأنا وانت وأنا جميل جمال، ويا سلام على حبى وحبك يا زهرة فى خيالى، يا حبيبى طال غيابك يا أبو ضحكة جنان وليه أنا بحبك، واكتب على أوراق الشجر يا عوازل فلفلوا ومش كفاية قلبى ومفتاحه وملاكش حق عنيه بتضحك وقلبى بيبكى.. فريد الفريد المتفرد القادم من جبل الدروز الذى احتفت بالأمس دار الأوبرا المصرية بالسنة الأولى من بعد المئوية بميلاده ملكًا للعود وأعياد الربيع، الذى رحل فى الأول من ديسمبر 1974 عن 64 عامًا حيث لم يطاوعه قلبه المرهف الموجوع على الصمود طويلا ليمنحنا من زاد عطائه الفنى أكتر وأكتر ليغدو ما تركه من فن الغناء والألحان والأفلام والأوبريت بمثابة الإرث البلاتينى الذى نسج أشعاره كل من أحمد رامى، والأخطل الصغير، وكامل الشناوى، وأحمد شفيق كامل، وإسماعيل الحبروك، وبديع خيرى..

فريد فى حكايته مع العمر كله ومتقولش لحد كان محبًا للحياة الحلوة بس نفهمها، والفن والمرح وسامية جمال التى حملته مع تحية كاريوكا أيام «انتصار الشباب» ملكًا متوجًا لا تلمس أقدامه الأرض
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف