فى ملحمة الحرافيش التى تعد واحدة من أهم روايات الراحل نجيب محفوظ تمثل «الإتاوة» مفتاحاً أساسياً من المفاتيح التى تدور حولها الأحداث داخل الحكايات العشر التى تشكلت منها، تقدم الرواية خارطة وصفية لعالم الفتونة والفتوات مقابل عالم الحرافيش والضعفاء، الفتوة يفرض سطوته على الحارة ويحمى أهلها مقابل الإتاوة التى يدفعونها، الحماية هنا أساسها الدفاع عن أهل الحارة ضد عدوان فتوات الحوارى الأخرى عليها، لكن الأمر يختلف بالنسبة لعلاقة الفتوة بهم، ففى الوقت الذى يفرض على نفسه حمايتهم من الأغيار لا يتردد فى سحقهم بيده إذا شذ أى منهم عن قواعده ورفض دفع الإتاوة، والإتاوة كانت عبارة عن مبلغ مالى يفرضه الفتوة على التجار والبائعين فى ربوع الحارة مقابل حمايتهم وتركهم فى حالهم ليبيعوا ويشتروا.
حكى «محفوظ» عن عهود ناعمة عاشتها الحارة كان الفتوة فيها يمنع جمع الإتاوة من الفقراء والمعوزين ويقصرها على التجار والأعيان، وكان يأخذ من الغنى ليعطى الفقير ويعمر الحارة، رحلة الحرافيش تبدأ بفتوة عادل هو عاشور الناجى اللقيط الذى آواه ورباه الشيخ عفرة زيدان، ومن بعده بدأ منحنى العدل فى الهبوط إلى أسفل، خصوصاً فى الفترات التى كانت تخرج فيها الفتونة من سلسال الناجى لتستقر فى «نبابيت» عائلات أخرى، الزمن يأكل القيم كما يأكل العمر، وقد تداعت قيم العدل والنخوة والشهامة فى عالم الفتونة حتى بين عائلة «الناجى» لتصل فى النهاية إلى الفتوة «حسونة السبع» فى القصة العاشرة، وتحكى رحلة عاشور الصغير آخر سلالة عائلة الناجى.
القصة العاشرة من الحرافيش تحتوى على «زتونة» موضوع «الإتاوة» فى الرواية البديعة، وقد ظهرت فى ذلك المشهد الذى وقف فيه عاشور الصغير مدافعاً عن قهر رجال حسونة السبع للباعة الغلابة وفقراء الحارة، انبرى «السبع» لـ«عاشور» وحذره من إثارة الأهالى، صرخ «عاشور» فى «السبع» وقال له إنهم -أى عائلة الناجى- سيدفعون «الإتاوة» عن الفقراء، متكلاً فى ذلك على الثروة التى جناها أخوه «فايز الناجى» من تجارة المخدرات ولعب القمار، هنالك ضحك «السبع» ضحكة مدوية ساخراً من اقتراح عاشور، ثم قال له بلهجة حاسمة: «الإتاوة يعنى طاعة.. يعنى الكل لازم يدفع»، لقد أراد حسونة السبع أن يشرح لعاشور الصغير أن المسألة ليست فى المبلغ الذى يتم حصده من فقراء ومساكين الحارة، المسألة فى دلالته على الطاعة، فدفع الإتاوة يعنى الطاعة وهى معنى أهم بكثير من المبلغ المدفوع بالنسبة للفتوة.
لو أنك فتشت وبحثت حواليك ستجد أن الفكرة البديعة التى أنتجها نجيب محفوظ فى روايته الأشهر حاضرة بقوة فى حياة الشعوب، أمامك نموذج لا يخطئ يمكن أن تجده فى الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» الذى لا يتردد فى أن يعلن صراحة أن استمرار القوات الأمريكية فى سوريا والدور الأمريكى فى حماية دول الخليج لا بد أن يقابله مليارات الدولارات التى يجب أن يدفعها حكام هذه الدول، ولعلك تلاحظ أن بعض المسئولين الخليجيين ينصحون بعضهم بعضاً وبشكل رسمى ومعلن بدفع «الإتاوة» لفتوة العصر «ترامب»، ذلك الرجل الذى لا يقل براعة عن حسونة السبع الذى فهم أن الإتاوة ليست مجرد «فلوس» بل قبل هذا وذاك «طاعة»!.