المصريون
جمال سلطان
كلام جديد للسيسي يستوجب المناقشة
لعلي لا أكون مبالغا إذا قلت بأن ما ورد في حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم أثناء فعاليات الندوة التثقيفية للقوات المسلحة هو كلام جديد يستوجب التوقف أمامه ومناقشته ، ففي بعض ما ورد خلاله رؤية جديدة مغايرة لما تم تدشينه من رؤى حول أزمة مصر وتحدياتها في الفترات السابقة ، كما أن البعض الآخر من كلامه هو تأكيد على معاني سابقة يؤمن بها ولكنها تستوجب المراجعة والنقاش الجدي من أجل صالح الوطن وصالح الشعب وصالح الدولة .
كان لافتا أن السيسي يتحدث ـ لأول مرة ـ عن أن التحدي الذي يواجه مصر وشعبها هو تحد داخلي ، قالها بوضوح : التحدي هو تحد داخلي وليس خارجيا ، كيف يأكل بعضنا بعضا ويقتل ـ أو يموت ـ بعضنا بعضا ، هذا كلام جديد ، وأتصور أنه يضع قدم السيسي على أول طريق الحل الحقيقي للمشكلة الوطنية التي تعانيها مصر الآن ، فلطالما انتشر الحديث السهل والمجاني عن المؤامرات الخارجية وأن أزمات مصر تحركها المؤامرات الخارجية ، وهو كلام دخل فيه كل من هب ودب ، وكل من أراد أن يتزلف وينافق للسلطة ، ووصلت المزايدات فيه لمستويات متدنية من الديماجوجية ، مثل الحديث عن مؤامرة إسرائيلية أمريكية ضد مصر ، بينما التنسيق في أعلى درجاته مع "إسرائيل" والدعم في أقصى درجاته من الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب ، فكيف يمكن أن يستوعب عاقل جدية الكلام عن مؤامرة أمريكية ضد السيسي أو مؤامرة إسرائيلية ، وحتى عند الحديث عن خصومات إقليمية مثل الخلاف مع قطر أو مع تركيا ، فمن تحميل الأمر ما لا يحتمل الحديث عن مؤامرة هنا ، هو خلاف سياسي حاد بين مصر وبين الدولتين ، على خلفية مشكلة الإخوان المسلمين ومشكلات أخرى فرعية ، لكنه لا يرقى ـ أيا كان عمق الخلاف ـ إلى أن نتحدث عن "مؤامرة" تهدد مصر من الدولتين ، نحن بذلك نعطي تأثيرهما في السياسة الداخلية والشأن الداخلي المصري أكبر كثيرا مما يتصور أو يتصل بالواقع ، بل بعض هذا الكلام كان مهينا مصر وقدراتها وحجمها .
الآن يقول السيسي كلاما جديدا ، التحدي داخلي ، التحدي هو في أدائنا نحن وسلوكنا نحن ، حكومة وشعبا ، سلطة ومعارضة ، وقيمة هذا الكلام أنه يدعونا إلى البحث عن صيغ داخلية للخروج من أزماتنا ، وبكل تأكيد أن هذه الصيغ لا يمكن أن تأتي من طرف واحد ، وإنما من جميع الأطراف ، وبالتالي فهي لا يمكن أن تأتي إلا من خلال شراكة وطنية ، تتيح مساحات من العمل والفعل أمام تيارات الوطن المختلفة ، طالما كانت تستظل بالقانون وبالشرعية ، فهل يمكن لنا أن ننتظر من السيسي قرارات شجاعة تمهد الطريق أمام هذا التحول ، طالما اتفقنا على أن الأزمة داخلية وأن حلها داخلي بطبيعة الحال ، هل يمكن أن نشهد مرحلة تخف فيها قبضة الأمن عن الحياة السياسية وعن المجتمع المدني وعن الإعلام وعن الأحزاب وعن النقابات وعن الجامعات ، لكي يتنفس الجميع بشكل صحي وصحيح ، ويشاركوا بجدية ومسئولية في صياغة مخرج للوطن من أزمته وانقساماته الخطيرة ، هل يمكن أن نرى قرارات شجاعة بالإفراج عن آلاف المحتجزين على خلفية إشكالات سياسية ومعارضة ، وأن تكون هناك لقاءات وحوارات مباشرة بين الرئيس وبين قوى المعارضة المختلفة.
المسألة الأخرى التي وردت في حديث الرئيس اليوم ، وهي في السياق نفسه ولكن بطرح تصور مختلف للأزمة الداخلية ، هي قوله أن (التحدي الحقيقي أمام الشعب هو الحفاظ على تماسك الدولة) ، وأنا أقدر الهاجس الكبير الذي يتملك الرئيس من اضطراب أحوال الدولة ، بعد الفترات العصيبة التي مرت بها بعد ثورة يناير ، ولكن تلك كانت مرحلة استثنائية ، ومرت بها كل الشعوب التي مرت بتجارب ثورية ، حتى في أوربا ، وحياة الشعوب تعود لطبيعتها بعد ذلك ، والدولة المصرية قوية بما يكفي ، ولا يتصور أحد أن الدولة في حالة هشاشة تسمح لأي ريح سياسية مهما كانت أن تطيح بها ، الدولة المصرية راسخة وقوية ، وتقديري أن الصيغة الأقرب لتوصيف الأزمة التي نعانيها هي عكس ما طرحه الرئيس في رؤيته هنا ، فالأدق والأصوب ـ في تقديري ـ أن التحدي الحقيقي أمام الدولة هو الحفاظ على تماسك الشعب ، فالدول ، أو بمعنى أدق النظم السياسية ، تتغير وتذهب وتجئ ، لكن الشعب إذا تمزق وانفرط وذهب فلن يعود ولن تبقى هناك دولة ، فالمسئولية ليست للشعب تجاه الدولة ، بقدر ما هي التزام الدولة بالحفاظ على وحدة الشعب ، ولو تأملنا أبعاد هذه الرؤية فالمؤكد أنها ستضعنا أمام صيغة جديدة لأولويات الخروج من أزمة الوطن الحالية ، فالدولة شديدة التماسك ، لكن الشعب مبعثر ومشتت وممزق ويعاني شكوكا متزايدة أمام المستقبل .
لقد لفت نظري في كلمة الرئيس أيضا أنه يوجه خطابه إلى النخبة والمفكرين والمثقفين والإعلاميين ، لتحمل مسئولياتهم تجاه التحديات الداخلية للوطن ، وهذا أيضا كلام مهم ، غير أن الأجواء السياسية والثقافية والإعلامية التي يحياها المفكرون والمثقفون والإعلاميون في مصر هذه الأيام لا تسمح أبدا بالتفاعل مع مثل هذه الدعوة ، ولا بالثقة في أن أجهزة الدولة حاليا مؤهلة للانفتاح أمامها وتقدير ما تتمخض عنه من تعددية في الرؤية وتنوع في الاختلاف ، حتى لو كان هذا الاختلاف مع السلطة ذاتها وتقديراتها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف