الوفد
عباس الطرابيلى
المصري.. وتقديس النعمة
لا أعرف شعباً- في العالم كله- يقدس النعمة، كما يقدسها الإنسان المصري.. والنعمة هنا ليست فقط الطعام، أو ما يأكله الإنسان ويشربه.. ولكنها أيضا المال، النقود.. بل إن الله سبحانه وتعالي قدم وفضل المال علي البنين..
ولقد عرف المصري- ومنذ آلاف السنين- قيمة النعمة.. وبالذات لقمة العيش.. وليس سراً أن المصري يطلق كلمة «العيش» علي الخبز. أي أن الخبز هو قرين الحياة، ومعني ذلك أن المصري يري في هذه اللقمة سر الحياة.. نقول ذلك رغم أن شعوب الخليج تطلق لفظ العيش علي الأرز بحكم أنهم يعتمدون عليه أكثر من القمح بسبب حاجة القمح إلي عمليات عديدة لإعداده للأكل بينما الأرز سهل الإعداد.. وكانوا يستوردونه من الهند وباكستان بحكم الجوار التجاري..
<< والمصري يعتمد علي الخبز- أي العيش- بنسبة أكبر مما يعتمد علي الأرز إلا في المحافظات الساحلية الشمالية بحكم زراعة أهلها للأرز أكثر من القمح..
ويا سلام علي تقديس المصري- مهما كان عمره- لرغيف العيش. مثلاً تجده في الصباح وقبل أن يقطع لقمة من الرغيف يقبل أي يبوس الرغيف أو يقدمه علي عينيه.. ويقسم علي الرغيف- بعد تقسيمه إلي نصفين- بأن ما يقوله هو الصدق.. ولا شيء غير الصدق، بل يتبع ذلك الفعل بقوله: «إياك أعدمه» يعني أفقد هذا الرغيف إذا كنت أقسم كذباً.. أو يفقد بصره.
<< ونفس المصري يقسم بالعيش والملح «وحياة العيش والملح اللي بينا» والغريب إذا كان الملح ضرورياً للجسم.. فإن العيش هو أساس الحياة. أي ليس عند المصري ما هو أفضل مما يقسم بهما.. أو عندما يحتد الخلاف بين اثنين نجد أحدهما يقسم بقوله «وحياة العيش والملح» تقعد.. وتستريح.. وسوف ننهي المشكلة.. وهناك من يقسم «وحياة دي النعمة» وهو يقربها من عينيه..
ويزداد معني تقديس النعمة عند المصري إلي أعلي درجة.. إذ عندما كان المصري يجد لقمة عيش في الشارع.. فإنه كان إما ينحني ويلتقطها دون أن يدوسها ثم يقربها من فمه، ويبوسها، ثم يضعها بجوار الحائط حتي لا تتعرض للمهانة، تحت أقدام العابرين.. أو يكون أكثر تقديساً «ونفسه حلوة» فينفخ فيها لإزالة ما علق بها من تراب، ثم يضعها في فمه.. ويأكلها.. ولسان حاله يقول «ياخد ثوابها» أي ثواب عدم إهانتها.. فهل بعد ذلك تقديس للقمة العيش..
<< وأتذكر هنا ما كتبه عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد في مقدمته الرائعة تحت عنوان «الطبيعة المصرية في حقيقتها» لكتابه عن الزعيم سعد زغلول. يقول إنه رأي طفلا مسجوناً قبيل ترحيله.. ومر به سجين عائد من جريمة سرقة ورفع الطفل له رأسه وناداه في مسكنه: جوعان.. فتمهل اللص العائد وقال له: وماذا اصنع لك بني.. وانصرف آسفاً فظننته لا يعود.. ولكنه ما لبث أن عاد بعد دقائق ومعه رغيف سرقه من المخبز فقسمه نصفين وأعطي الطفل نصفه.. واستبقي لنفسه النصف الآخر.. ولو ضبطوه وهو يسرق الخبز، لما نجا من الجلد الأليم..
<< والنقود، أيضا، نعمة. وراقبوا العامل البسيط.. أو التاجر الصغير عندما يستفتح.. يعني يقبل أي ثمن لما يقدمه إذا قال له المشتري: يا عم استفتح.. وربنا يفتحها عليك!! فيقبل.. وهو يبوس الفلوس التي دفعها المشتري في هذا «الاستفتاح».. الذي يأمل أن يكون يومه كريماً..
ونفس السلوك نجده حتي في بعض سائقي التاكسي.. عندما يرزقه الله بأول ايراد، أي استفتاح. فهو يقبل الحصيلة الأولي ثم يرفعها إلي عينيه أو جبينه قبل أن يضعها في جيبه.. وهذا سلوك لم أجده في أي منطقة في العالم، رغم انني سافرت إلي معظم دول العالم.. ويظل المصري يقدس نقود هذا الاستفتاح حتي بعد أن يضعها في درج الايراد..
<< والمصري- حتي الآن ورغم متغيرات الحياة- نادراً ما يلقي بقايا العيش في الزبالة.. لأن لها عنده هذا الاحترام المترسح في عقله الباطن، وفي عمق تقاليده.. ونادراً ما يسرق اللص الخبز.. حتي وإن سرق كل شيء وأي شيء.. لأنه يري أن سرقة العيش حرام.. ولهذا يترك المخبز إنتاجه علي الرصيف، دون أي حراسة.. وكذلك بائع العيش.. إذ لم يعرف المصري- علي مر الزمن- مصرياً يسرق العيش، إلا مضطرا للغاية..
وإذا كان أمراً عادياً أن نجد حرامي الفراخ. وحرامي الحمام.. وبالطبع حرامي الحلل زمان.. وربما يسرق الرغيف الفينو، إلا العيش البلدي المصري الشهير الذي يراه المصري رمزاً للنعمة.. ويا سلام علي الرغيف البلدي بتاع زمان، بتاع أبو تعريفة.. أبو ردة المغذية إذ كلها من البروتين.. ويا سلام لو كان طازجاً: مقمراً. أو محمصاً. أو ملدناً. أو ناشفاً.. فهو يؤكل حاف، أو بأقل غموس..
<< ويبقي تقديس المصري للنعمة.. وسيظل قسمه والرغيف علي عينيه هو أعلي درجات تقديس المصري للنعمة.. وهو يلتزم بهذا القسم حتي لا يفقد هذه النعمة.. أو يفقد نور عينيه..
وتلك من أهم سمات المصري، سواء كان في العصور الفرعونية أو تحت الاحتلال أو تحت ظلال الإسلام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف