الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
تلك المأساة اسمها حياة
يقول شكسبير: «إن الحزن الصامت يهم» فى القلب حتى يحطمهس هذا هو حال الشعب الأرمنى اليوم وهو ينظر إلى وطنه وقد أُغتصب، وهو يسمع عن حكايات الأجداد الذين أهينوا وتشردوا وماتوا ذبحاً أو حرقاً أو جوعاً. إننا نستطيع أن نرى الدموع المتحجرة فى عيون شعب ذُبح مرتين مرة على أيدى الأتراك المتوحشين والأخرى حين صمت العالم أمام تلك المذابح والتطهير العرقي.

إنه درسٌ بالغ القسوة لكل من يستهين بمخططات تلك القوى الاستعمارية والهمجية التى لا تبالى بالأرواح ولا تلتفت إلى صرخات الأبرياء ودموع الأطفال وجراح المساكين، كل ما يشغل اهتمامهم هو السيطرة وسرقة الأوطان.

وحين نسمع ونرى ما فعله الأتراك لهذا الشعب نتساءل فى حيرة هل كان هؤلاء بشرا حقيقين يحملون قلباً ينبض ونفساً تشعر وأرواحاً لها حياة؟ أما كانوا خليقة أخرى خليطٌ من وحوش الغابة وعقول الشياطين لكنهم لهم نفس ملامح البشر، وهؤلاء هم الذين يظهرون الآن بصورة المدافعين عن حقوق الإنسان ويحاولون أن يلبسوا قناع المبادئ والقيم، بينما أياديهم مازالت تقطر منها دماء الأبرياء، ورائحة الموت لا تزال عالقة فى ثيابهم.

إنه عالمنا الغريب أشباه البشر يتحكمون فى البسطاء والأبرياء العزل لا لشيء سوى أنهم احترفوا الوحشية. وقد كانوا يريدون لمصر نفس المصير، ومخططاتهم فى تدمير الشعوب لا تنتهي، إلا أن تاريخنا الطويل مع هؤلاء يخبرهم بأن مصر لا تنكسر.

وهذا هو فصل من فصول الغابة التى نسكنها، ففى نهاية القرن التاسع عشر ظهرت حركات التحرر الوطنى بين الشعوب التى اغتصبت أراضيها الدولة العثمانية. ومع انتشار تلك الأفكار والدعاوى التحررية حاولت الشعوب المطحونة أن تتخلص من نير استعمار الأتراك لتنال حريتها، فقد اغتصب الأتراك أراضى اليونان والصرب والعرب والأرمن والأكراد والسريان.

ومع ازدياد حدة الصراع لجأ الأتراك إلى نغمة الفتنة الطائفية، وأخرج السلطان عبد الحميد الثانى القبائل الكردية لمهاجمة القرى المسيحية فى شرق الأناضول، ووعدهم إنه لن يتدخل لحماية الأرمن أو السريان المسيحيين الذين كانوا يمثلون نسبة 32% من الإمبراطورية التركية. وأطلق شعار «اقتل مسيحيا تدخل الجنة». وقد لعب السلطان على وتر الفتنة الطائفية حتى يبدو أمام العالم أن الصراع طائفى وليس سياسيا وقُتل نتيجة هذا الصراع مئات الآلاف من الأرمن والسريان، وتجرع مسيحيو تلك المناطق كأس الألم والذبح فى مرارة بالغة. وكالعادة لم يتدخل العالم الذى كان يتشدق بشعارات الحرية حين ذاك.

وفى عام 1914م نشبت الحرب العالمية الأولى وخاف الأتراك من انضمام باقى القرى المسيحية فى جانب روسيا للتخلص من حكم الأتراك فأطلقت الدولة العثمانية عام 1915م حملة لإبادة الأرمن والسريان الساكنين على أراضيها معتبرة أنهم خطر عليها فى أعنف حملة تطهير عرقى عرفها العالم منذ أن سكن المتوحشون على أراضى البشر.

وبدأت الإبادة بإلقاء الحكومة التركية القبض على كل الشخصيات الأرمنية البارزة من مفكرين وأطباء وتجار ومعلمين ورجال دين وأعدمتهم فى الشوارع أمام بيوتهم حتى يصبح الشعب الأرمنى بلا قيادة. فالشعب الذى يفقد قيادته ورجاله الحقيقيين يصير من السهل إبادته.

وانتشر الذعر بين الشعب الذى صار بلا قيادة واستمرت مطاردة الأتراك للرجال وقتلهم ذبحاً أو شنقاً أو رمياً بالرصاص فى الشوارع، لم يبق سوى النساء والأطفال والمسنين. وبعدها صدر قرار من الحكومة التركية على مغادرة الشعب الأرمنى والسريانى بيوتهم تاركين أملاكهم ومغادرة البلاد فى غضون أربع وعشرين ساعة.

وأخرجتهم من ديارهم فى قوافل طويلة مثل الأغنام نحو صحراء بلاد الشام سيراً على الأقدام فى أسابيع متواصلة حفاة وجردوا النساء من ثيابهن وساروا بلا طعام ولا ماء كى يموتوا فى الصحراء، وهذا ما حدث لأغلب الشعب. وكان عساكر الأتراك يتسللون فى الليل يحرقون الخيام ويربطون أقدام النساء بعضهم مع بعض مثل الحيوانات لضمان موتهن. وكانوا يختارون من الفتيات من يغتصبونهن طول الليل، والتى كانت تقاوم كانت تحرق أمام أعين الأخريات لتكون عبرة. ولم يرحموا حتى النساء الحوامل فكانوا يتراهنون على جنس الطفل الذى تحمله أحشاؤهن ويشقون بطونهن ويخرجون الجنين فى استخفاف بالغ الوحشية.

وخلال مسيرة التجويع والألم كان يسقط فى الطريق من لم يحتمل ليموت تحت الشمس وتحت نظر العالم كله. ونجا من هذا الشعب ما يقرب من 25% فقط، وقد أبيد الملايين، والذى بقى عاش مشوه النفس ليعيش فى أزمة أخرى تسمى الحياة. فصاروا لاجئين فى عالم فقد الضمير والرحمة.

ولم تنته المأساة عند هذا الحد فقد أباد الأتراك اليونانيين البنطين سكان جنوب البحر الأسود وتم تدمير قراهم ومحوها من الوجود. وبعد كل هذا العبث والوحشية خسرت تركيا الحرب، ولكنها خسرت شيئاً أعظم هو إنسانيتها. فما أشبه الليل بالبارحة فلا يزال الأحفاد يتممون خطط الأجداد فى قرى سوريا ومحاولة التحرش بمصر.

ولكن الأعجب هو أن هذا الشعب الذى ذُبح بالأمس وصاروا مشتتين فى العالم لم يتحولوا إلى وحوش ولا إلى أشخاص تحاول أن تهدم وتسرق وتقتل، فالشعب الأرمنى صارت له بصمات فى كل بلد عاش فيه، فمن اخترع التليفزيون الملون أرمني، ومخترع الطائرات الميج المقاتلة أرمني، ولوثر جورج مخترع الصراف الآلى أرمني، ومئات الاختراعات التى أفادت البشرية مثل جهاز الأشعة السينية والمسح الضوئى التى اخترعوها هم الأرمن.

وفى مصر الذين جاءوا ليعيشوا فيها صاروا ضمن نسيجنا الوطني، أصبحت لهم إضافة أيضاً فى مجتمعنا مثل نوبار باشا، وصاروخان الرسام الكاريكاتيري، وكثير من الفنانين الذين كانوا ولا يزالون لهم مكانة فى قلوبنا. فالأسبوع الماضى كان تذكار تلك النكبة وهذا العار الذى لم تمحه البشرية عن جبينها إلى الآن، بل فى كل يوم نرى عارا أخر بنفس الوحشية. فيا إلهى نرجوك أن تتدخل فى هذا المشهد الوحشى ولا تترك الأشرار يدمرون عالمنا الذى صنعته لأجل الحياة وليس للموت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف