الأهرام
محمد سلماوى
أزمة «التجارب السريرية»!
لم أتحدث مع أحد من المعنيين بالبحث العلمى إلا ووجدته ناقما على مشروع القانون الذى قدمته وزارة الصحة، والذى سيتراجع بالبحث العلمى فى مصر أكثر من تراجعه الحالى الذى وصل إلى مستوى يدعو للخجل ولا نستطيع أن ننافس به أكثر الدول تخلفا فى العالم. لقد نص الدستور بشكل واضح على حرية البحث العلمى ورعاية الدولة له، وخصص ما لا يقل عن 10% من الناتج القومى للتعليم والصحة والبحث العلمي، لكن وزارة الصحة بالمخالفة لذلك تتقدم الآن بمشروع قانون متخلف كثيرا عن ركب التقدم الذى يشهده العالم فى الوقت الحالى ويضع من القيود ما يضمن خنق كل التجارب الجديدة، وهى فى ذلك تستخدم ذريعة غير مفهومة، وهى حماية الأمن القومي، بينما الحماية الحقيقية للأمن القومى تكون بمواكبة التقدم العالمى واكتساب القدرة على المنافسة، وليس بإغلاق أنفسنا داخل أسوار التخلف، ولننظر الى ما تفعله إسرائيل، تلك الدولة الطفيلية التى لا تمتلك قدرات مصر البشرية والحضارية، والتى وصلت معدلات التقدم العلمى فيها إلى ما لا تحلم به الدول العربية مجتمعة.

لقد حدثنى العلامة الدكتور مجدى يعقوب عن فرع جديد فى الطب يسمى Precision Medicine أى الطب الدقيق، والذى يعتمد على أحدث الاكتشافات فى مجال الحمض النووى والخريطة الجينية للإنسان، وهو يجعل العلاج بالأدوية الموحدة لجميع أجناس البشر أسلوبا باليا سريعا ما سيعفو عليه الزمن، فتكوين الحمض النووى لسكان المنطقة العربية ومواصفات جيناتهم الوراثية تختلف عن مثيلاتها فى أوروبا مثلا أو أمريكا اللاتينية، ولذلك فالدواء الذى يأتى بآثار فعالة على الإنسان الأوروبى قد لا يأتى بنفس الآثار على الصيني، وقد تم أخيرا اكتشاف أن أحد الأدوية المعروفة والتى تستخدم بنجاح فى حالات سرطان الثدى عند النساء فى أوروبا لا تحقق نفس النجاح مع النساء الأخريات بسبب اختلاف التركيب الجينى لكل منهن.

لذلك تتجه الأبحاث الآن الى التوسع فى تحاليل الحمض النووى لكل مجموعة من المجموعات البشرية لمعرفة طبيعتها وتحديد مكوناتها، بحيث يمكن التوصل الى الدواء الفعال مع تلك المجموعة والذى قد لا يكون بنفس الفاعلية مع مجموعة أخري. وقد تمت بالفعل تلك التحاليل مع المجموعة الأوروبية بقدر كبير من التوسع بحيث أصبحت الخريطة الجينية للإنسان الأوروبى معروفة بكل تفاصيلها، لكن هناك نقصا هائلا فى تحاليل بقية المجموعات البشرية، وعلى وجه الخصوص تلك المنتمية لمنطقة الشرق الأوسط، لذلك عجبت كثيرا للكلام الذى تقرأته أخيرا على لسان وزير الصحة الدكتور أحمد عماد الدين والذى لم أفهمه، حيث يقول الوزير إنه سيتم منع خروج الجينات المصرية من مصر تماما(!) وأن مثل هذه التحاليل والتجارب تتطلب موافقة الأمن العام(!) وأن الدول الأجنبية تعمل على تهريب الجينات المصرية الى الخارج تمهيدا لأن تشن علينا حربا بيولوجية(!) ثم أضاف فى حديث له مع جريدة «المصرى اليوم» بالحرف الواحد: «وللعلم اللى حايطلع عينات بشرية دون موافقة الدولة حايسجن سجنا مشددا من 10 إلى 15 سنة والغرامة مليون جنيه» وهنا أجد لزاما عليّ أن أعترف للوزير، كما يعترف المذنب للقسيس، بأننى أرسلت عينة من حمضى النووى فى العام الماضى الى خارج البلاد لمعرفة مكوناته، ذلك أننى كنت فى ذلك الوقت بصدد كتابة مذكراتى التى ذكرت فيها أن جدى لوالدى أخبرنى وأنا صغير أننا ننحدر من سلالة عربية لأحد القادة الذين صاحبوا عمرو بن العاص أثناء فتحه مصر، وأردت أن أعرف بعد مرور السنين وما حدث خلالها من تزاوج مع عائلات ذوات أصول أخرى إن كان مازال المكون العربى يغلب على تركيبة جيناتى الوراثية، وقد نشرت فى الكتاب نتيجة التحليل التى وصلتنى من أحد المعامل الشهيرة فى الولايات المتحدة، وإنى أعلن الآن لاببنا الوزير أننى نادم كل الندم على فعلتى هذه، وأؤكد له أننى لم أكن أعلم أن تلك العينة التى لم تزد عن كونها بصقة من اللعاب، سيتم استخدامها فى شن حرب بيولوجية ضد الشعب المصرى العظيم الذى أمضيت حياتى فى خدمته من خلال مختلف المواقع التى تقلدتها، لكنى أعرف بالتجربة العملية أنه لا توجد قيود فى الخارج على مثل هذه التجارب، وأن من حق أى إنسان أن يطلب إجراءها ــ كما طلبت أنا ــ وأن يرسل للمعمل بصقة من لعابه ــ كما أرسلت أنا ـ دون أن يتسبب ذلك فى شن حرب بيولوجية أو كيماوية أو غير ذلك من الحروب التى تستخدم فيها مثل هذه الأسلحة التى تندرج تحت مسمى أسلحة الدمار الشامل.

على أنى قرأت رأيا مخالفا لرأى الوزير كتبه الصديق الدكتور محمد أبوالغار الذى لم يبد لى أنه يكترث كثيرا للحرب البيولوجية التى يتحوط لها وزير الصحة، بل هو يرى أن هذا القانون المنظم للبحث العلمي، والذى أصبح يحمل اسم «التجارب السريرية» ليس من اختصاص وزير الصحة أصلا، وإنما يقع تحت مسئولية وزير البحث العلمي، كما يرى الدكتور أبوالغار أن مشروع القانون المذكور سيقضى تماما على البحث العلمى فى مصر، ويضيف وهو عضو فى لجنة الخمسين للدستور، أن أساتذة القانون الدستورى أفادوا بعدم دستوريته.

أما الدكتور محمود المتينى عميد كلية الطب بجامعة عين شمس، والذى هو من أنصار إصدار قانون ينظم «التجارب السريرية» فيرى كثيرا من العوار هو الآخر فى مشروع القانون المطروح، ويعيب عليه أنه لم يعرض على الجامعات التى هى الجهة المعنية أكثر من غيرها بالبحث العلمي، فهل هذا معقول؟ لماذا لا ننظر إلى الدول الأخرى لنرى ماذا يفعلون وكيف يتقدمون؟ ولماذا يكون العالم دائما فى واد ونحن فى واد آخر، واد غريب يتحكم فيه الأمن القومى فى «التجارب السريرية».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف