الأهرام
أسامة سرايا
قلب القاهرة وقلوب مصر
عشت سنوات طويلة أضع كتاب (وصيتي لبلادي) للدكتور إبراهيم شحاتة، أحد أساطين الاقتصاد والخبير العالمي، كمرجعية أسترشد بها عندما أفكر في الاقتصاد المصري، وكيف يخرج من النفق المحشور فيه منذ الستينيات وقد أراد به الدكتور شحاتة أن يفكر لمصر بعد عمله عقودا طويلة في البنك الدولي. وأتذكر أنه عقب صدور الكتاب، وما طرحه من قضايا، خاصة فى مجال التخصصية، نظمت ندوة للخبير العالمي، ودعوت لها كل أساتذة الاقتصاد الكبار، خاصة أساطير الفكر اليساري فى مصر، وهم مدرسة عظيمة وقوية ومتماسكة لمناقشة هذا الكتاب الحيوي، والذي مازال مصدرا لإلهام كثيرين رغم ما طرأ على الفكر الاقتصادي المحلى والعالمي من تطورات عديدة، وهذا ليس موضوعي الآن، ولكنه مدخلي لفكرة مختلفة، ظهرت جلية، عندما انفجرت أزمة المدن الجديدة على أطراف القاهرة، بعد أزمة الطقس السيئ، والمفاجئ في وقته ونحن في الربيع، وعلى أبواب الصيف. فالمطر الشبيه بالسيول أغرق الضواحي الجديدة قبل أن يغرق المدن القديمة نسبيا، فغمرت النكات والسخرية الشارع المصري وأثار البعض الضجيج والزوابع وأهال التراب على الحكومة والمجتمعات العمرانية، وكأنها هي وحدها المسئولة، في حين أن المسئولية مشتركة بيننا وبين الحكومة. ولعلى أتذكر أنه في هذا الكتاب المبهر أنه إذا حاولنا الإصلاح أو التطوير، فيجب ألا نركز في الإنشاء الجديد فقط، رغم أهميته، بل أن نصلح القلب في كل مكان، وفى كل شيء حولنا، ولعل حادث المطر بداية للإصلاح.

ونحن نبنى عاصمة إدارية جديدة أو أى مدينة أخرى يجب ألا ننسى القاهرة نفسها، حتى يكون إصلاحنا من القلب، فلكل بلد قلوب متعددة، فإصلاح التعليم الجامعي لن يتم ببناء جامعات جديدة فقط، بل بإعادة جامعاتنا القديمة: (القاهرة وعين شمس وأسيوط والإسكندرية) لأنها قلب التعليم الجامعي، وهكذا في إصلاح المدارس المصرية، فالمدارس القديمة ذات العراقة (الخديوية والسينية والإبراهيمية وغيرها) هى قلب التعليم ما قبل الجامعي.

وهكذا مستشفياتنا القديمة، فلن يكون مستشفى 57357 وحده قاطرة تجر المستشفيات للإمام، ولكن هناك مستشفيات مثل قصر العيني والدمرداش هما قلب المستشفيات الجامعية. والقاهرة لها قلب، هو التحرير، وماسبيرو وشارع الجلاء، وشارع فؤاد والقاهرة الخديوية، وبولاق، وهى نفسها القلب لمصر. وقد قرأت مقالاً لكاتب مبدع في الأهرام هو د. عمرو عبد السميع، تحدث فيه عن مبنى الحزب الوطني الذي حرق فى أحداث يناير، ثم هدم بعد ذلك، وقد تصور الذين أحرقوه أنهم حققوا أهدافهم، فجاءت النتيجة عكس ما فكروا، فمن يثورون ويريدون تحرير الوطن لا يحرقون، ومن يحرق ويدمر يصبح متهماً لا ثورياً، حتى لو كان حزبا يكرهه، ويتصور أنه بالتخلص منه قد وضع قدميه على طريق التحرر، و لكن النتيجة تكون عكس ما يتصور.

وطرح الكاتب مسألة التفكير في المستقبل، وألا نظل معتقلين فى فكرة الهدم دون أن نتصور الخطوة التالية، ولأنني أعرف تاريخ هذا المبنى، وقد كان مقراً للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الذي ظل لصيقاً بتجربة الستينيات، ولسنوات ما قبل إطلاق الرئيس الراحل السادات فكرة المنابر(اليمين والوسط واليسار)، ثم تطورت إلى أحزاب. فهو مكان له تاريخ في حياة الجمهورية منذ قيامها في الخمسينيات وحتى الآن، كما أنه في قلب القاهرة، وإذا تمت الاستفادة منه، فسوف تكون رسالة للأجيال المقبلة، على معنى التراكم والاستمرارية في الحياة السياسية المصرية. وقد كان تجمعاً للفريق السياسي والوطني، وامتدادا لحزب الزعيم الوطني الراحل مصطفى كامل، وكانت فيه الروح الوطنية والاستقلالية عن كل الأطراف الخارجية، وهو أحد قلوب مصر النابضة، وعودته للحياة عودة للأمل والشعور بالمستقبل، وأننا وطن يتطور ويستوعب الدروس، ولا يهدم التاريخ.

لذلك، أدعو السادة المسئولين عن المشروعات القومية، ود.إبراهيم محلب، مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية، والحكومة ورئيسها شريف إسماعيل، ومحافظة القاهرة، إلى أن يتبنوا فكرة بأن يكون مبنى الحزب الوطني السابق حديقة لمصر، تحمل اسم المؤسس الثاني للحزب الوطني بعد مصطفى كامل. حديقة مبهرة تحكى تاريخ مصر السياسي منذ قيام الجمهورية وحتى الآن، يزورها الكبار وحتى الأطفال، وطلاب المدارس والجامعات، وتحكى قصة العبور وأبطاله بإقامة تماثيل لهم، يدوّن عليها تاريخهم وأعمالهم، وكيف وصلوا إلى عبور الهزيمة، وتجاوزوا كارثة 1967، وكذلك تحكى قصة السلام، وكيف عبر السادات، ومن جاء بعده، بالوطن إلى بر الأمان حتى وصلنا إلى القدرة على تجاوز كارثة الفوضى وتفكك البلاد، وأعطينا دروسا بليغة لكل من تسوّل له نفسه بالتدخل فى الشأن المصري، أو فرض على المصريين ما لا يقبلون. وبذلك، ننشئ حديقة سياسية لأول مرة في بلادنا، تبدأ بقصة يوليو، وظهور الضباط الأحرار الذين أنقذوا البلاد من الوقوع فريسة للتيارات المتطرفة منذ الخمسينيات في القرن الماضي، إلى أن وصلوا لإنقاذ مصر منهم فى العشرية الثانية من القرن الحالي، ووضع مصر على طريق المستقبل. هذه الحديقة ستكون إعادة القلب للقاهرة الجديدة، كإشارة لإعادة قلوب أخرى تنبض فى كل محافظة، وفى كل مكان فى مصر المتجددة المتطورة، والتى تدخل تاريخا جديدا وطورا مختلفا فى حياتها السياسية، يستوعب الماضى، ويبنى عليه عصرا جديدا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف