الأهرام
حسن ابو طالب
ترامب وقيادة العالم بالجباية
دأب الرئيس ترامب على القول إن بلاده تقوم بحماية دول أخرى، وأن عليها أن تدفع الكثير مقابل هذه الحماية، وكما قال فى المؤتمر الصحفى مع الرئيس الفرنسى ماكرون فى البيت الأبيض إن بلاده أنفقت فى العقود الأخيرة أكثر من 7 تريليونات دولار ولم تحصل على أى شئ مقابلها. والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن هل صحيح أن ما أنفقته الولايات المتحدة إن كان كثيرا أم قليلا لم يَعد عليها بأى عائد سياسى أو اقتصادى؟، وأن الرؤساء الأمريكيين وأعضاء الكونجرس السابقين كانوا من الغباء بحيث ينفق كل هذه الأموال الطائلة بدون أى مقابل؟ وهل بالفعل كانت الولايات المتحدة كريمة إلى هذا الحد مع العالم، أو حتى عدد محدود من الدول بحيث تحمى أو تدافع هكذا لوجه الإنسانية؟

فى الأمثال الشعبية ما يمكن ان يرد على هذه الاسئلة بكل بساطة، فالحدأة لا تلقى بالطيور فى البرية وهكذا هى أمريكا ما أنفقت فى أى يوم دولارا واحدا على أمر ما يخص العالم أو منطقة بعينها أو دولة محددة إلا وكان عائده المئات بل الآلاف من الدولارات. الأرقام الأمريكية الرسمية كفيلة باثبات الأمر. فالعالم كله تقريبا يحمى الاقتصاد الأمريكى من خلال آلية شراء السندات وأذون الخزانة الأمريكية، والتى هى عبارة عن دين مؤجل الدفع. العرب وحدهم ممثلون فى 11 دولة عربية استثمروا فى تلك السندات 284 مليار دولار حتى نوفمبر 2017، منها 149 مليارا سعودية و59 مليارا من دولة الامارات والكويت 37 مليارا. مصر أيضا لها استثمارات فى السندات الأمريكية بمبلغ 2.3 مليار دولار، وحتى موريتانيا، وهى بلد عربى ذو اقتصاد ضعيف للغاية لديها استثمارات فى السندات الحكومية الأمريكية بمبلغ 1.5 مليار دولار. هناك أيضا الصندوق السيادى الكويتى وله استثمارات فى الولايات المتحدة بملبغ يقارب 260 مليار دولار فى قطاعات النفط والعقارات والتكنولوجيا المتقدمة.

يقابل ذلك الاستثمارات الامريكية فى الأسواق العربية، والتى تفوق 200 مليار دولار حتى فبراير 2018، منها 58 مليار دولار استثمارات امريكية فى الاقتصاد السعودى باجمالى 373 شركة، وفى دولة الامارات 32 مليار دولار، وفى عُمان نحو 7 مليارات دولار. وفى مصر باجمالى 2.4 مليار دولار فى 1222 مشروعًا، تعمل فى قطاعات الصناعة والخدمات والإنشاءات والتمويل والزراعة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. أما التبادل التجارى بين العرب والولايات المتحدة فالأرقام تشى بالكثير من الفوائد للاقتصاد الأمريكى، إذ قفز التبادل التجارى بين امريكا والعالم العربى من 120 مليارات دولار فى 2015 إلى 210 مليارات دولار فى العام 2017. ومع دول الخليج قفز من 41 مليار دولار عام 2015 إلى 58 مليارا نهاية العام 2017، وبلغ حجم التبادل التجارى بين مصر والولايات المتحدة العام الماضى 5 مليارات و618 مليون دولار، محققًا زيادة قدرها 13% عن عام 2016، وفقا لتصريحات وزير التجارة والصناعة المصرى.

وهناك الكثير من صفقات السلاح الامريكى للعديد من الدول العربية، والتى تفوق 300 مليار دورلا فى السنوات العشر الماضية. بعبارة أخرى أن العالم العربى وحده قدم الكثير من العوائد الاقتصادية وفرص العمل للأمريكيين كما فتح لهم الأسواق للتجارة بدون قيود. ومن ثم فمن يقول إن أمريكا أنفقت ولم تحصل على شىء، هو قول كاذب جملة وتفصيلا. إلى جانب العوائد الاقتصادية هناك عوائد استراتيجية هائلة لم تكن لتحصل عليها واشنطن دون مساندة عربية كبيرة. فعلى سبيل المثال فالدور الذى لعبته بعض الدول العربية فى مساندة السياسة الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتى السابق، سواء قبل غزو أفغانستان أو بعده، كان من العوامل الأساسية التى ساعدت واشنطن فى تحقيق انتصارها الاستراتيجى، والذى تمثل فى سقوط الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو 1990، ومن ثم إتاحة الفرصة الكبرى للسياسة الأمريكية لتسيد العالم كقطب وحيد لمدة العقدين التاليين. فكيف يمكن تقدير مثل هذا الانتصار التاريخى بالأموال، وهل يساوى 7 تريليونات دولار أم أكثر؟

إن رؤية الرئيس ترامب فى أن تستعيد بلاده قيادة العالم فى ظل واقع العولمة لا تستقيم مع كل السياسات والقرارات التى تؤدى عمليا إلى عزلة أمريكا، والى ضرب كل الحلفاء فى مقتل بل وابتزازهم عبر تصويرهم كحلفاء ضعفاء لا قيمة لهم، بما فى ذلك اعضاء الناتو، وأنه ليس عليهم سوى تقديم الأموال للجيش الأمريكى لكى يقوم بحمايتهم. استراتيجية الجباية هذه تخلو من أى قيم انسانية تتعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كالتى اعتادت الولايات المتحدة أن تغلف بها سياساتها تجاه العالم، سواء كانت الإدارة جمهورية أو ديمقراطية. الأكثر من ذلك تُعد ضربا فى القيم التى يبنى عليها الجيش الأمريكى، حيث يتحول من جيش لدولة قائدة للعالم إلى جيش يرتزق من أزمات الآخرين وصراعاتهم، فضلا عن إثارة الحروب التجارية، والتخلى عن مسئولية حماية بيئة كوكب الأرض، والتزيد فى توقيع العقوبات، والسعى إلى قهر كل من لديه سياسة مختلفة وتصور مختلف للحياة، ويرفض الابتزاز الأمريكى والخضوع للتهديدات. آخر تغريدات الرئيس ترامب تجسد كل ذلك، حيث هدد من يصوت لملف المغرب لاستضافة مونديال 2026 بدلا من التصويت للملف الأمريكى.

صحيح أنه من حق الولايات المتحدة أن تحافظ على تفوقها، وصحيح أيضا أن من حق كل الدول فى هذا العالم أن تحافظ على نمط حياتها، وأن تسعى أيضا إلى تحسين أوضاعها، وأن تطرح سياسات ومواقف مختلفة تجاه العالم ومشكلاته. وإذا كانت إدارة الرئيس ترامب تستهدف العزلة عن العالم وأن تتخلى عن التزاماتها، فلها ذلك، ولكن ليس من حقها أن تضرب بعرض الحائط المعاهدات الدولية ونظام الأمم المتحدة، وأن تفرض على الآخرين ماذا يفعلون. ما يريده ويفعله الرئيس ترامب هو ضد أى سياسة تقود إلى قيادة أمريكية للعالم. فقدان النموذج القيمى لا يعطى أى مصداقية لما تفعله واشنطن. نموذج الابتزاز والجباية كان قديما زمن الإمبراطوريات العظمى التى لا تعرف سوى الاستغلال والاستبداد والقهر. وأيا كانت قدرات أمريكا المديونة للعالم بأكثر من 7 تريليونات دولار، فلن تستطيع أن تعيد زمن الإمبراطورية الرومانية مهما فعلت.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف