د. محمود خليل
الأسرة الأموية تقتل الخليفة
فى سنة 100 هـ ثار الخوارج كعادتهم على الخليفة الأموى الذى تولّى الحكم لتوه عمر بن عبدالعزيز، وقاد راية تمردهم رجل من «بنى يشكر»، اسمه «بسطام». تحلّق حول القائد الخارجى ما لا يزيد على 80 رجلاً، لكنهم شكّلوا تهديداً ضد الدولة دعا عمر بن العزيز إلى التعامل معه وعلاجه، ولكن بطريقته الخاصة. يبدو أن «عمر» شعر أن علة الخوارج فى الفكر والرؤية، وأن لديهم فهماً خاطئاً لمسائل الدين والولاية والحكم، فأراد فى البداية أن يخوض معهم مواجهة فكرية يدحض فيها الرأى بالرأى ويرد على الحجة بالحجة. طلب الخليفة الأموى من عامله على الكوفة -فى البداية- ألا يتحرك ضد الرجال الثمانين، إلا إذا سفكوا الدماء وأفسدوا فى الأرض، فإن فعلوا وجّه إليهم رجلاً صليباً حازماً فى جند، ثم كتب رسالة إلى «بسطام» قائد الفرقة المتمردة يقول له فيها: «بلغنى أنك خرجت غضباً لله ولرسوله ولست أولى بذلك منّى، فهلمّ إلىّ أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك». استجاب «بسطام» لدعوة الخليفة وأرسل إليه رجلين يناظرانه، أحدهما كان حبشياً اسمه عاصم، والثانى رجل من «بنى يشكر».
اشتملت المناظرة التى اشتعلت بين عمر بن عبدالعزيز وكل من «عاصم» والرجل اليشكرى على جانبين أساسيين، الجانب الدينى، والجانب السياسى. وفى حين بدأت المناظرة سياسية، فسرعان ما تحولت إلى المسألة الدينية واستغرق أغلبها فى هذا الجانب، لتعود من جديد إلى مسألة سياسية شديدة الخطورة. سأل «عمر» خصمَيه فى البداية هل ينقمان عليه أمراً، فأقر الاثنان بعدله وإحسانه، لكنهما سألاه سؤالاً شديد الخطورة يتعلق بالطريقة التى تولّى بها الحكم، ورد «عمر» عليهما رداً حكيماً فقد أقر بانتقال الحكم إليه بعهد من الخليفة الذى سبقه، ليلمح بذلك إلى الطريقة التى تولّى بها غيره من الخلفاء الراشدين. كما نبّه «ابن عبدالعزيز» إلى أنه لم ينَل الحكم بغلَبة السيف أو بقهر الناس، وأن رضاء الناس عن سيرته وسياسته خير دليل على قبولهم له.
انفلت مبعوثا «بسطام» بعد ذلك إلى أمر أشد خطورة وضع عمر بن عبدالعزيز فى مأزق، حين أخذا من كلامه ما يفيد باتهام أهل البيت الأموى ومَن سبقه من خلفاء بنى أمية بالظلم والجور، وسألاه لماذا لا يلعنهم ولا يتبرأ منهم بسبب ظلمهم للمسلمين؟. لم يعدم الخليفة الحجة الدينية أمام خصمَيه، وكان ذكياً حين بادر إلى الاستدلال بالقرآن الكريم، وما حكاه من أمر الأمم السابقة التى حكمها ظالمون. استدل بموقف نبى الله إبراهيم من قومه الذين أنكروه ورفضوا الانصياع له حين دعاهم إلى الإيمان بالواحد الأحد، فلم يلعنهم النبى، بل رد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
عند هذا الحد انتهى الشق الدينى الصريح فى المناظرة، لتنتقل بعدها إلى الجانب السياسى، وهو الجانب الذى أربك عمر بن عبدالعزيز أيما إرباك. جاءت الضربة من الرجل اليشكرى حين سأل الخليفة الأموى: «أرأيت رجلاً ولى قوماً وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذى يلزمه لله، عز وجل، أو تراه قد سلم؟. قال عمر: لا. قال اليشكرى: أفتسلّم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟». ويبدو أن «عمر» فكر فى تصحيح المعوج فى أمر ولاية العهد فأراد خلعه، وجاء الرد من الأسرة الأموية سريعاً، فوضعوا على «عمر» من سقاه سُماً، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى مرض ومات.