الدستور
سيد عبد القادر
لماذا يراهن العرب على ود أعدائهم؟
الانتصارات السياسية لا تتحقق بالمبارزات الكلامية، كما يعتقد أغلب العرب الآن، لذلك فإن التصريحات النارية والخطب العصماء، أمام شاشات التليفزيون - وهذه هى الأشياء الوحيدة التى نتقنها- لا تحمى الأوطان بل قد تعصف بها وتهدمها.. كما حدث للدول الشقيقة التى عصف بها الربيع العربى «الأسود».
العرب أبناء حضارة كلامية.. فهم أساطين البيان، والشعر ديوانهم.. وهو الذى قتل أشهر شعرائهم أبوالطيب المتنبى بعدما تفاخر ببيت من الشعر زعم فيه أن «الخيل والليل والبيداء (تعرفه).. والسيف والرمح والقرطاس والقلم»، فسالت دماؤه وزهقت روحه ولم تشفع له بلاغته.
لكن تاريخنا الطويل يؤكد أن قدراتنا الهائلة على الكيد وصناعة المؤامرات لا يقابلها نفس القدر من الفهم فى أمور السياسة، ولذلك فإننا نلدغ من نفس الجحر مرتين وثلاثًا وعشرًا، وتعيش بلداننا فى ظل كل أنواع الاستعمار العسكرى والسياسى.. وحتى عصر الاستعمار عن بعد الذى تمارسه علينا الولايات المتحدة اليوم.. فهى التى تجعل الكثير من قادة العرب يأتون إليها، حاملين أموالهم وذهبهم طوعا، يلقونها تحت قدمى الساحر الأمريكى، الذى تفوق مهارته سحرة فرعون، ليحولها إلى أفاعٍ تطير فى السماء وتمخر عباب البحر لتلقى صواريخها وقنابلها على بيوت ومساكن مانحى الأموال أنفسهم، وسط صيحات الفرح والتهليل.
سادة البيان يقولون ما لا يفهمون.. ويراهنون بكل ما لديهم لكسب ود أعدائهم، فتضيع ثرواتهم ولا يربحون من العدو إلا سخريته واستهزاءه بهم.. فتطير الرءوس وتترنح الأوطان.
لقد صدّق العرب، فى نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضى، ما روجته الولايات المتحدة وأوروبا من أن إيران هى الخطر الأول عليهم، وأن الثورة الإسلامية (الشيعية) تدق طبول الحرب، فمولوا حرب صدام ضد إيران لمدة ثمانية أعوام، وأنشدوا فيه أبلغ القصائد باعتباره «حارس البوابة الشرقية» ولما انتهت الحرب، أوعزوا للبطل العربى باعث القومية العربية باحتلال الكويت، ثم حاصروا بلده وقتلوه وأخذوا نفط بلاده بأبخس الأثمان. لكن الرهان لم يتوقف على كسب ود العدو، وترديد كذبته بأن إيران هى العدو الأول للعرب.. فباعوا لنا أسلحة بمئات المليارات، لكنهم سمحوا للمارد الإيرانى بالتقدم ليحكم العراق ويسيطر على الساحة السياسية فى سوريا ولبنان واليمن، حتى أصبحت دول الخليج العربية محاصرة من ثلاثة اتجاهات. والمثير للدهشة - وللبكاء أحيانا- أننا مصرون على تصديق العدو وترديد كذبته الكبرى، بدليل أن هناك من يواصل إهدار المليارات من أموال النفط العربى فى سوريا، ومن هو على استعداد لإرسال مقاتلين عرب إلى هناك ليحلوا محل المقاتلين الأمريكيين فى القاعدة الأمريكية فى «منبج»، ولا عجب أن يتفاخر «الساحر» ترامب أمام شاشات التليفزيون وهو يقول «ستدفع الدول العربية ثمن دفاعنا عن سوريا.. سيدفعون لأن لديهم الأموال الكثيرة». حتى الأزمة القطرية.. فرغم قوة سلاح المقاطعة لهذه الإمارة المارقة، التى أهدرت المليارات فى حرق أقطار عربية شقيقة، تحول جانب منها إلى مباراة «مبتذلة» لكسب ود العدو أو الساحر الأمريكى الماكر، الذى يأخذ المليارات من المعسكرين المتشاحنين، لمجرد إصدار تصريحات تشعل نار الكراهية لا أكثر ولا أقل.. فعندما يأتى المال من «الطيبين» يخرج الساحر العجوز ليقول إن قطر دولة ذات باع كبير فى الإرهاب، وعندما يأتى المال من عصابة الحمدين يصدر الساحر العجوز تصريحات مناقضة، ويقول إن قطر والولايات المتحدة ماضيتان فى مكافحة الإرهاب.. والتصفيق مستمر لهذا المشهد الهزلى المستمر منذ ١١ شهرًا.
مازال أغلب السياسيين العرب يمارسون السياسة كـ«ظاهرة صوتية»، فيلجأ وزراء الخارجية والسفراء العرب إلى تقطيب الجبين وتغليظ الصوت أمام شاشات التليفزيون وهم يصرحون قائلين (لن نسمح لإيران بأن تستولى على بلادنا)، أو (لا بد أن يرحل الأسد)، أو حتى من قبيل (مصلحة أوطاننا العربية فوق كل اعتبار)، والنتيجة دائما عكس ما يقال، رغم كل المليارات التى نهدرها فى شراء السلاح فإيران تحكم فعليا ست عواصم عربية، والأسد لم يرحل بعد سبع سنوات ولن يرحل بقرار عربى، أما مصالح دولنا فهى آخر ما نفكر فيه.
لن يتغير الحال إلا إذا أدرك العرب حقيقة السياسة الدولية التى يمارسها سحرة الغرب، ضد دول المنطقة منذ عقود طويلة. لن يتغير حال العرب إلا إذا تعلموا وفهموا أن السياسة التى تمارس ضدنا هى «صناعة النفاق»، أو فلنقل صناعة المسرحيات والأفلام الهزلية التى ينتصر فيها الأشرار فى النهاية، لأنهم يتقنون أدوارهم ويغمضون عيون الضحايا، ليجعلوهم يسيرون نحو الهاوية بكل حماس.
ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن السياسة الدولية الآن أصبحت أشبه بفيلم بوليسى عالمى أو دولى، يمتلئ بالألغاز والأسرار والصفقات السرية، وملىء بالأكاذيب والخدع التى تروج لها وتبررها آلة الإعلام الدولى الجبارة التى تلعب بالبيضة والحجر. وقد مورست علينا هذه الحيل عشرات بل مئات المرات، قبل سايكس بيكو، وقبل وبعد الربيع العربى، وربما تعجب أعداؤنا كيف نصدقهم بكل هذه السهولة، وكيف أدمنّا خداعهم لنا وسخريتهم منا.
لن ينصلح حالنا السياسى قبل أن نوقن أننا أمة «ضحكت من جهلها الأمم»، لأنها أنفقت ثرواتها لكسب ود أعدائها لا أصدقائها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف