الوطن
خالد عكاشة
تونس ليست الإجابة دوماً.. ربما السؤال أيضاً! (1)
على مدار أربعة أيام مزدحمة بالفعاليات، شاركت فى تونس العاصمة بمؤتمر عنوانه «عناصر داعش ما بعد سوريا والعراق». قام المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية بتنظيم الملتقى عبر دعوة ممثلين لمجموعة الدول المعنية بهذا العنوان، مع تخصيص هذه الدورة لدول شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، وهذا جعل المشاركين الرئيسيين يمثلون دول مصر وليبيا وتونس والمغرب، وتشاد ومالى والنيجر. وغاب التمثيل الجزائرى فقط لظرف طارئ تعذّر معه حضوره إلى تونس فى اللحظات الأخيرة.

انصبّ اهتمام المركز التونسى على إلقاء الضوء على التحديات والرهانات الأمنية المستقبلية فى فصل مقبل رأى أنه قد بدأت بالفعل إرهاصاته ومشاهده. المستقبل المقصود يعنى شهوراً مقبلة ربما تتجلى فيها وقائعه خلال ما تبقى من العام 2018 و2019 على أقصى تقدير. والتحدى والإرهاصات لها علاقة بسؤال المؤتمر المحورى: كيف سيهدد مقاتلو «داعش» العائدين من سوريا والعراق دول الشمال الأفريقى العربية ومعها دول الساحل والصحراء الأفريقية؟ وتلك الكيفية تستهدف البحث فى مسارات العودة ومَن من الدول سيدعمها ويسهّل لها طريق الدخول لتلك المنطقة المعنية. وأى من أشكال الحواضن من الممكن أن تكون جاهزة لاستقبالهم، وما يمكن اعتباره أدواراً مطلوبة من مؤسسات الدول «محل التهديد»، كى تلعب أدوارها فى حماية المعادلات الأمنية المحلية لها، فضلاً عن مساهماتها بأدوار فاعلة فى جوارها الإقليمى.

ما وجدته جاداً ومتميزاً من المركز الدولى التونسى أنه حرص خلال انتقائه للمشاركين من الدول على أن يكون هناك تنوع فى التخصصات يغطى الجوانب المتعددة لمحاور البحث والنقاشات والمعلومات والتجارب الواقعية على الأرض، لذلك كان هناك الأكاديمى والعسكرى والأمنى، فضلاً عن أصحاب تجارب العمل الميدانى فى بؤر التهديد، وهؤلاء أيضاً ضموا من عمل على الجوانب البحثية والرصد، ومن انخرط لسنوات فى العمل الإغاثى والإرشادى للمنظمات المدنية المحلية والعالمية. وهذا التنوع الثرى ضمِنَ أكبر زاوية رؤية لمشكلة الإرهاب التى تحتاج لمثل هذا القدر، باعتبارها التحدى الأكثر تعقيداً فعلياً. الجانب الثانى من التميز وجدته فى اختيار النطاق الجغرافى المشار إليه، وربما هو يظهر للمرة الأولى على موائد البحث كوحدة جزئية من الخريطة الكلية لتهديد «الإرهاب المسلح». وقد كان لى شخصياً مساهمة فى هذا التخصيص، وهو تأكيد أهمية هذا التقسيم الجغرافى داخل فضاء واسع متنوع ومتمايز، فيما يخص مفردات وتفاصيل ودوافع وفرص التهديد، ما بين مناطق «كلية» لها خصوصية متقاربة عن غيرها من مناطق أخرى رغم الوقوع تحت ذات الخطر المنظم.

ومن وجهة النظر التى تبنيتها فإن التخصيص والتقسيم يساعد على فهم معمق، ويساهم فى وضع استراتيجيات واقعية وفعالة للمجابهة، خاصة أن التنظيمات الإرهابية الكبيرة «داعش، والقاعدة» تنظر وتخطط للمناطق الجغرافية على خرائط عملها التنظيمى وفق هذا المفهوم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يدخل على خط العمل، وفق هذا المفهوم، الدول الداعمة أو «المشغل» الذى تشكل له تلك الساحة أهمية مطامع وطلب على النفوذ. بمعنى أدق، الدولة التى سيهمها اختراق وتشغيل «القاعدة» فى أفغانستان، ليست هى ذات الدولة التى ستلعب دوراً مماثلاً فى فرع «القاعدة فى بلاد المغرب»، رغم المرجعية الواحدة لكلا التنظيمين.

وقد قدمت بالمؤتمر بعض الأدلة التى تشير إلى أن تنظيم «داعش» يتعامل مع المنطقة المشار إليها باعتبارها وحدة كبيرة واحدة. ولأن الأمر، كما أسلفنا، له أيضاً ظلال لدى رعاة التنظيم وممثلى غطائه السياسى، فهنا قد تكون تركيا وقطر حاضرتين بقوة فى الأحداث، إذ كشف المؤتمر بحيادية على الأقل أن تورطهما العميق فى صناعة الفوضى وتأسيس المناطق الرخوة ليس اتهاماً مصرياً منفرداً، بل إن أصداءه (الاتهام) تتردد فى دول الشمال الأفريقى بقوة، وبدلائل ثبوتية تجعل التغافل عنه نوعاً من التفريط فى شقَّى المعادلة الأمنية، الوطنية والإقليمية.

لعل أبرز أشكال تمهيد الأرض أمام «صناعة التهديد» عبر الفوضى المسلحة هو ما جرى فى ليبيا، قلب المنطقة الجغرافية التى نتناولها، فلم يكن التدمير الممنهج لمؤسسات ومكونات الدولة والمجتمع الليبى إلا مقدمة مثالية تحقق اختراقاً كبيراً لتلك المنطقة فى جوارها العربى شرقاً وغرباً، ولامتدادها الأفريقى الجنوبى والجنوب الغربى، ووقوف تركيا وقطر ومعهما «الأذرع الإخوانية» فى هذا المحيط، والمقصود فى مصر والسودان وتونس فضلاً عن الفرع الليبى، بأدوار فاعلة ومؤثرة منذ لحظة انطلاق الفوضى الليبية، وصولاً إلى حصاد اليوم الذى صنع بمهارة ودأب أكبر مساحة تعقيد ممكنة، وشكّل على الأرض مساحات متناحرة من الانقسام المناطقى الذى يقف حجر عثرة أمام أى من التسويات أو الاستقرار السياسى، حتى يظل استرداد الإرادة الليبية الوطنية الجامعة بعيد المنال، فى ظل الاحتكام إلى السلاح وترسيخ التحالف مع الميليشيات.

ولهذا يظل الاختراق الليبى هو التهديد الذى نجح فى صناعة أكبر منطقة رخوة يمكنها أن تظل منتجة للفوضى بأشكالها المتنوعة، والتى يسهل انتقالها وتأثيرها فى محيطها، المعبأ أصلاً بمشكلات واحتقانات يمكن العمل على تأجيجها، وفى هذا تظل «التنظيمات الإرهابية» هى اليد الأخيرة التى تنفذ، لكن هناك ثمة مقاعد خلفية يجلس عليها المخططون والطامعون فى مواقع النفوذ والثروات، كما تتوافر على المشهد مساحات لتبادل المنافع والأدوار، تماماً كما يجرى فى البعض منه تبييض للنشاط المسلح خارج القانون، ضماناً لاستمرارية هذا الوضع المثالى من وجهة نظر المشغلين والصنّاع الكبار!

تلك مقدمة وإطار عام جرت فيه وقائع مؤتمر المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية التونسى، لكن كما كان يحلو للبعض أن يشير إلى أن الإجابة دوماً هى «تونس»، لماذا تمثل تونس الآن كما وجدتها سؤالاً، ربما كاشفاً بأكثر مما هو محير. هذا نتناوله الأسبوع المقبل بمشيئة الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف