المصريون
د. عبد الآخر حماد
الشيخ حسنين مخلوف يتصدى للمتساهلين في الفتوى
من الأمور التي تكاد لا تخفى على مسلم كون الإسلام هو دين اليسر ورفع الحرج ، إذ قد تضافرت الأدلة الشرعية على النطق بتلك الحقيقة حتى بلغت مبلغ القطع واليقين .فمن ذلك قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ،وقوله : ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ).
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) [ أخرجه البخاري والنسائي من حديث أبي هريرة ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ) [ أخرجه البخاري تعليقاً في كتاب الإيمان : باب الدين يسر ، ووصله أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد حسن ] . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) . [ أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح ] .
غير أن تلك النصوص القاطعة المبينة ليسر الإسلام وبراءته من التشدد والتنطع لا يجوز بحال أن تتخذ تكأة لتمييع الأحكام الشرعية ، وأن يبحث العلماء عما يجاري أهواء الناس وشهواتهم ، ويوافق ما تعارفوا عليه حقاً كان أو باطلاً ،وذلك لأن الحنيفية السمحة -كما يقول الشاطبي في الموافقات - : ( إنما أتى فيها السماح مقيداً بما هو جارٍ على أصولها ، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها ).
وقد قيض الله تعالى لهذا الدين في كل عصر وزمان من ينافح عن أصوله ويبين للناس حقيقته وأنه مع براءته من التشدد لا يقر التساهل وتمييع الأحكام الشرعية .
ومما وقفت عليه بهذا الخصوص موقف عميد الإفتاء في مصر في العصر الحديث الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله ، الذي تولى منصب الإفتاء مرتين الأولى من يناير سنة 1946م وحتى مايو سنة 1950م والثانية من مارس 1952 وحتى ديسمبر 1954م
وقد جاء موقف الشيخ مخلوف المشار إليه رداً على فتوى نشرتها مجلة الجيل الجديد في 25 فبراير 1957م ،لوزير الأوقاف في تلك الفترة جاء فيها أنه يجوز للخاطب أن يختلط بمخطوبته قبل عقد الزواج فيقبلها ويعانقها ليتأكد من صلاحيتها له وليأمن العيوب الخفية ، كما قال إنه يوافق على إنشاء مسجد خاص بالسيدات ،وإنه سيسمح لهن بالصلاة فيه على حالتهن التي يرتدن بها المجتمعات ، فيصلين حاسرات الرؤوس كاشفات الأذرع .
ولما كانت مثل تلك الأقوال منافيةً لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يقل بها أحد من فقهاء الأمة الثقات ،فقد انبرى الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله والذي كان في تلك الفترة رئيساً للجنة الفتوى بالأزهر حيث أصدر بشأنها بياناً نشرته مجلة لواء الإسلام [عدد رمضان 1376هــ -أبريل 1957م ] ومما جاء في ذلك البيان : أن من الناس من لم يفقه المعنى الصحيح ليسر الإسلام فراح يتحدث عن سماحة الإسلام بما يقضي بأنها مجاراة الشهوات وإقرار العادات ، مع أن قليلاً من الفهم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله يدل دلالة ظاهرة على أنهما حاربا الشهوات الباغية والعادات الذميمة التي يأباها الخلق والفضيلة والمصلحة الظاهرة ، ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن ما نشر على لسان وزير الأوقاف من إباحة التقبيل والعناق للمخطوبة قبل العقد أو الزفاف هو قول باطل يرده كتاب الله وسنة رسوله ومذاهب الأئمة قاطبة ؛ إذ لم ينقل عن أحد من المسلمين إجازته فضلاً عن أنه إباحية فاحشة ، تنكرها الأخلاق والعادات الفاضلة ، ثم بين أنه لا يباح للمرأة أن تكشف وهي تصلي إلا الوجه والكفين سواء أكانت صلاتها في مخدعها أم في غيره كما ورد في السنة المأثورة ،وإليه ذهب جمهور الائمة ، وأما حكم إنشاء مسجد خاص بالنساء فقد ذكر الشيخ حسنين مخلوف أنه بدعة لم تعهد في عهد النبوة ولا في القرون الثلاثة الأولى التي هي أفضل القرون كما جاء في الحديث ،ثم ختم الشيخ بيانه بقوله : ( ومما يجب التنبيه إليه أن الإفتاء في الدين مقام خطير لا يتصدى له إلا فقيه ثقة أمين على الأحكام ،ولا يجوز الإفتاء بما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويجر إلى مفسدة ظاهرة من الشاذ من الأقوال ، كما لا يجوز لعالم من علماء المسلمين أن يذيع باسم الدين آراء ليس لها وزن عند جمهور أئمة المسلمين) .
وبعد: فلعل من المناسب أن أشير إلى أن صاحب الفتوى المردود عليها كان هو الشيخ أحمد حسن الباقوري ، وقد كان رحمه الله من كبار مشايخ الأزهر ،ولكن اشتهر عنه ميله إلى مثل هذه الآراء المتساهلة ، التي كانت تجر عليه إنكار المنكرين ،وربما نيل من عرضه بسببها .
وقد تتلمذت على الشيخ الباقوري رحمه الله في أخريات حياته ، بمعهد الدراسات الإسلامية ، وقتَ أن كان عميداً له ، واستفدت من علمه في مجالات السيرة والتفسير واللغة وغير ذلك ، وأذكر له بعض المواقف التي وقعت أثناء تدريسه لنا ، ومنها فيما يخص القضية التي نحن بصددها - قضية التساهل في الأحكام الشرعية -موقفه من موضوع الفصل بين الطلبة والطالبات . وذلك أن المعهد كانت الدراسة فيه مختلطة بين الطلبة والطالبات، فربما جلست فتاة بين شابين أوالعكس ،فضلاً عن أن غالبية الدارسين والدارسات لم يكونوا ممن يلتزمون بالسلوك الإسلامي الكامل ، فربما أدى ذلك لوقوع بعض المخالفات الشرعية ، وهذا ما حدا بشيخ الأزهر في تلك الفترة ،وهو الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله – والذي كان يدرس لنا مادة التفسير – أن يُبديَ استياءه من هذا الأمر ؛حيث ذكر في إحدى محاضراته لنا أن مثل هذه المناظر لا تليق بمعهد إسلامي، وأن علينا أن نخاطب إدارة المعهد في ضرورة الفصل بين الطلبة والطالبات .
فلما جاء موعد محاضرة عميد المعهد -الشيخ الباقوري – أخبرناه بما قاله الدكتور عبد الحليم محمود ، فما كان منه إلا أن قال : لو أن مولانا شيخَ الإسلام قال هذا الكلام على سبيل الأمر الواجب التنفيذ لنفذناه ولقلنا : سمعاً وطاعة ، ولكنه قال هذا الكلام على سبيل النصيحة ، ونحن مخيرون في الأخذ بالنصيحة وعدم الأخذ بها . وبعد جدال طويل معه وافق على الأخذ بتلك النصيحة ، وسألَنا عن رأينا في كيفية تنفيذها ،فاقترح أكثرنا أن يجلس الطلبة في الأمام والطالبات في الخلف ،ولكنه رفض ذلك ورأي أن يجلس الطلبة في الجانب الأيمن من المدرج والطالبات في الجانب الأيسر منه ، وحتى لا يحدث ما نخشاه من الاختلاط فإنه طلب أن نترك مسافة مقدارها متر واحد بين آخر طالب وأول طالبة ، فنفذنا ذلك ، ولكن -وكما كان متوقعاً -فإن مسافة المتر التي طلب الشيخ أن نجعلها بين الأولاد والبنات لم تستمر أكثر من أسبوع واحد ، ثم ما زالت تتناقص إلى أن تلاشت تماماً ،ثم عاد الأمر كما كان ، ولم يتحقق ما كان يأمله الشيخ عبد الحليم محمود ، رحم الله الجميع وغفر لنا ولهم .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف