هذا المقال ليس عن كرة القدم، وإنما عن السلطة فى الثقافة السياسية للمصريين. أبدأ من الصعوبات التى واجهها حكم مباراة الأهلى والزمالك فى إدارة المباراة لأنها تكشف جوانب مهمة من الطريقة التى ينظر بها المصريون للسلطة. الحكم فى مباريات الكرة هو صاحب السلطة الشرعية فى الملعب، وهو الوحيد المخول بتفسير القانون، وإصدار الأحكام، وتطبيقها. لم يعط قانون الكرة للاعبين أو المدربين الحق فى تفسير القانون، ولا الحق فى الاعتراض على قرارات الحكم أثناء المباراة. تقديرا لانفعال اللاعبين وحماسهم جرت العادة على التسامح مع بعض الاحتجاجات غير المتكررة وغير الحادة، لكن ما فعله اللاعبون فى مباراة القمة تجاوز كل ما يمكن التسامح معه، ليدخل فى خانة العصيان، وترويع الحكم.
تصرفات اللاعبين مع الحكم المصرى لم تكن لتحدث لو كان حكم المباراة أجنبيا. لقد أفسدت الاحتجاجات العنيفة مباريات ومواسم كروية كاملة قبل عقود، ومن يومها ومباريات القمة يستجلب لها حكام أجانب. الاحتجاج على قرارات الحكم المصرى رفضا لسلطته، فيما الانصياع لقرارات الحكم الأجنبى قبولا بسلطته، وهو مشهد يلخص الكثير من توجهات المصريين تجاه السلطة. عندما تكون السلطة فى يد واحد منا فإن الثقة فيها تكون ضعيفة؛ وعلى العكس، فإن الثقة تزيد فى سلطة البعيد الغريب عنا.
للثقة فى السلطة جانبان، واحد يتعلق بالكفاءة، والآخر يتعلق بالنزاهة. يثق الناس فى السلطة عندما يعتقدون فى قدرتها على إنجاز المهمة الموكلة لها باقتدار، وعندما يكونون متأكدين من أن صاحب السلطة لن ينحرف بها، فيسيء استخدامها لأهواء فى نفسه، أو لمصالح مادية صريحة. عندما يفقد لاعبو الكرة والمدربون والجمهور الثقة فى الحكم المصري، فإنهم ضمنيا يرفعون راية الشك فى كفاءته ونزاهته؛ على العكس فإن انصياعهم لقرارات الحكم الأجنبى تنطوى على اعتراف بكفاءته ونزاهته. عدم الثقة فى الذات الوطنية، والانسحاق تجاه الأجنبى باعتباره الأغنى والأذكى والأعلم والأعدل، يضع الثقة فى سلطة الغريب البعيد، فيما ينزعها عن سلطة المحلى القريب.
نزاهة السلطة شيء يتمناه الناس لكنهم لا يتوقعون حدوثه، فالأرجح هو تحيز صاحب السلطة لنفسه ولأهله. يتوقع الناس تعاطف السلطة معهم ومحاباتها لهم، طالما جاء صاحب السلطة منهم؛ وفى هذه الحالة على السلطة أن تمنح لا أن تمنع، وأن تعطى لا أن تأخذ، وأن تكون سيفا فى يدنا على خصومنا. يتوقع الناس من ابنهم الذى أصبح فى موقع السلطة أن يمنحهم معاملة تمييزية، وأن يعود عليهم بالمنافع. السلطة فى ثقافتنا السياسية ليست منصبا يشغله الناس لتنفيذ دور مرسوم يحدده المنصب، لكنها خير أتى لبعض العباد، ومن واجبهم مشاركة هذا الخير مع أهلهم وأحبائهم. خالى البيه، الأغنية التى غنتها فاطمة عيد وسعاد حسني، تعبر عن هذه العلاقة الملتبسة. تفخر المغنية بخالها البيه الذى أصبح مرموقا فى موقع السلطة. تغنى الفتاة لـ«خالى البيه» الذى «كبش وإداني» و«كاد عزالي»، دون سؤال عن قانونية العطاء أو شرعية المكايدة. يتوقع الناس من صاحب السلطة من عائلتهم أن يجد وظيفة فى المصلحة التى يرأسها لكل أبناء عمومته القريبين والبعيدين، وأن يضع قريته على خريطة الخدمات الحكومية، فتدخلها المياه النظيفة وشبكة الصرف الصحي، ويقام فيها معهد دينى يوفر على الصغار مشقة السفر للمعهد الموجود فى قرية بعيدة.
السلطة المحايدة هى مصدر للقلق، لأنها قد تقرر الانحياز لآخرين لا يكفون عن إغوائها وتخويفها. لا يجب التسليم للسلطة بحيادها المزعوم، وإنما يجب العمل على ترويضها بالإغراء والترويع، حتى نكسبها فى جانبنا. السلطة النزيهة غير موجودة، وادعاءات الحياد والنزاهة ليست إلا غطاء لستر التحيز والمحاباة، هكذا يفكر العموم من الناس. مالم تكن السلطة منحازة لنا، فهى بالتأكيد منحازة لآخرين. مادامت النزاهة غائبة، والتحيز سيحدث فى كل الأحوال، فمن الأفضل أن تتحيز السلطة لنا عن أن تتحيز ضدنا. الناس يكرهون السلطة المنحازة لغيرهم، ويريدونها منحازة لهم، ولا يتوقعونها نزيهة محايدة فى أى حال.
السلطة القريبة من الناس معرضة للسقوط أمام اعتبارات القرابة والمحاباة والمجاملة، بينما سلطة الغرباء البعيدين محصنة ضد كل هذا. كان محمد على باشا الكبير ينظر للأمر بنفس هذه الطريقة، وعندما شرع فى توظيف المصريين فى مناصب الإدارة والسلطة، حرص على تعيين هؤلاء بعيدا عن مسقط رأسهم حتى يحميهم ضد ضغوط القرابة والمجاملة، وحتى يضمن التزامهم بتعليمات الوالى ومصلحة دولته.
الناس يهابون سلطة البعيد الغريب ويستخفون بالسلطة إن أتت من صفوفهم. عندما دخل نابليون بونابرت إلى القاهرة، شكل الديوان من قادة مجتمع القاهرة من شيوخ الأزهر ونقباء الأشراف، واستبعد المماليك، لأن الفرنساوية «كانوا ممتنعين عن تقليد المناصب لجنس المماليك» حسب ما كتب الجبرتي. طلب نابليون من الشيوخ والأشراف اختيار بعضهم لتولى مناصب «والى الشرطة» و«أمين احتساب»؛ رفض الشيوخ اختيار أحدهم، ونصحوا القائد الفرنسى بالاستعانة بالمماليك «لأن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك»، هكذا كتب الجبرتي. إنه نفس مبدأ السلطة البعيدة الغريبة، الذى نرى آثاره حتى اليوم.
انقضى الزمن الذى كان يمكننا فيه تسليم السلطة للغرباء، وأصبح علينا أن نجد حلا وطنيا لمعضلة كفاءة ونزاهة السلطة. عندما كانت السلطة بعيدة غريبة فى يد الملك وكبار الملاك، كان فيها الكثير من الكفاءة، والقليل من المساواة والعدالة. قرب الضباط الأحرار السلطة من الناس، ففقدت الكفاءة ولم تتحقق العدالة والنزاهة. الدور الاستثنائى الراهن للجيش فى مجالات التنمية والإدارة يقدم حلا وقتيا لمعضلة الكفاءة والنزاهة، ولإشكالية ابتعاد السلطة واقترابها. الحل النهائى للمعضلة يتحقق عندما يستطيع المجتمع إفراز سلطة قريبة من الناس، تتحاور معهم، فتعبر عنهم وتستجيب لاحتياجاتهم؛ وبعيدة عنهم بما يضمن لها نزاهة وحياد ضروريين لأى سلطة فعالة وشرعية.