الأخبار
نوال مصطفى
عودة إلي الجذور
حبر علي ورق
"لقد كانت مدينة الأسكندرية ومنذ أنشأها الأسكندر الأكبر مدينة كوزموبوليتانية، كان سكانها في ذلك الوقت يشكلون نسيجًا عالميًا، متعدد الأجناس واللغات. هناك المصريون، السكان الأصليون للموقع الذي قامت عليه المدينة، وهناك اليونانيون والمقدونيون والقادمون من المناطق المختلفة في آسيا الصغري والفرس والعرب والسوريون والأحباش والزنوج. وكانت تلك الخلطة البشرية تتحدث بأكثر من لغة، وأكثر من لهجة للغة الواحدة".
تذكرت تلك الفقرة من كتابي »أسطورة الأسكندرية.. أشهر مكتبة عرفها العالم»‬ وأنا أستمع إلي كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفالية إحياء جذور الجاليات اليونانية والقبرصية. كنت قد أنجزت الكتاب عام 2002 بمناسبة افتتاح مكتبة الأسكندرية الجديدة، وكانت فرصة رائعة بالنسبة لي لاكتشاف أسرار عظمة الأسكندرية ومكتبتها القديمة، العريقة. أبحرت في ذلك الزمن الساحر زمن الأسكندر الأكبر الذي تعلم علي يد أستاذ الفلسفة وشعاع الفكر أرسطو، فكان شغفه الأول هو المعرفة، يصطحب معه في كل فتح من فتوحاته فريقا من الباحثين في علوم الجيولوجيا، الزراعة، والإنسان، من أجل أن يجمع كل المعلومات بأسلوب علمي عن البلد الذي يضمه إلي امبراطوريته. إلي هذا الحد كان ولعه بالعلم والمعرفة. لم يمهل القدر الأسكندر الفرصة لكي يستكمل حلمه بأن تصبح الأسكندرية عاصمة العالم وليس مصر فحسب، فقد مات بطريقة دراماتيكية من لدغة ناموسة أصابته بمرض الملاريا، وكان عمره ثلاثة وثلاثين عاما!.
لكن قائد جيوشه ورفيق دربه بطليموس الأول خلفه في حكم مصر عام 323 ق.م، واهتم بالأسكندرية كمدينة تصدر الثقافة والعلم والإبداع إلي العالم كله، لذلك فكر في إنشاء مكتبة الأسكندرية، ليجتمع بها العلماء والباحثون والأدباء والفلاسفة من كل أرجاء المعمورة، وينزلون ضيوفا في »‬الموسيون» أي المجمع العلمي، تتحمل الدولة نفقات إقامتهم، كل المطلوب منهم هو أن يتفرغوا للبحث، والإبداع، حتي ينتجوا للبشرية أفضل منتجات الفكر والعقل والإلهام.
لذلك أسعدني اهتمام الرئيس بهذا التاريخ المشرف لأسكندريتنا، ومحاولته إحياء، وغرس تلك الروح في شرايين علاقتنا بالحضارة اليونانية علي وجه الخصوص، وأود أن أشيد بالسفيرة نبيلة مكرم عبد الشهيد وزيرة الهجرة في دورها الحيوي ورؤيتها المختلفة في إقامة وتنظيم هذه الاحتفالية العالمية، وكذلك أعجبني كلمة الرئيس اليوناني بروكوبيس بافلوبولوس عندما أشار إلي أن الدول الثلاث مصر، اليونان، وقبرص ليست قوي عظمي في مجال الأسلحة والقوة، ولكنها قامت بتطوير شيء مهم وهو القوة الناعمة والسلام.
وأكد في كلمته أن التاريخ قد أثبت أن الحوار والحضارة أبقي من القوة، لأن القوة تأتي وتذهب، لكن الحضارات تستمر، وهذا تم إثباته علي مدار الأربعين قرنا، نحن نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة من خلال تعاوننا الذي استعدناه في أكتوبر2017.
لقد كانت الأسكندرية شاهدة بمطاعمها ومقاهيها وفنادقها علي تلك العلاقة الخاصة بين مصر واليونان، فالعاملون في معظم تلك الأماكن السياحية كانوا من اليونانيين المقيمين بالأسكندرية، إن قصص اليونانيين في الأسكندرية تصلح لكتابة عشرات الأفلام والأعمال الدرامية، فهي قصص مليئة بالحب الصافي، والتعايش، وانصهار الحضارات، قصص رائعة من دم ولحم، تحتاج لقلم يستلهم روح ذلك الزمن ويبدع أعمالاً نابضة، من شأنها أن تغير البشر، وتمحو ندوب الطائفية والتطرف، وتزرع بذور الحب المفقود بين الشعوب. فيلم »‬رسائل البحر» للمخرج العبقري داوود عبد السيد ـ علي سبيل المثال - مستوحي من تلك الفترة الغنية من تاريخنا.
لقد كانت أسكندريتنا حتي ثورة يوليو 1952 مدينة عالمية بكل ما تحمله الكلمة، لكننا فقدنا ذلك التميز والتفرد، والآن تأتي مبادرة الرئيس لتحيي في نفوسنا جميعا هذا الحلم الجميل من جديد، أن نسير في شوارع الأسكندرية، فنلتقي بوجوه يونانية، قبرصية، فرنسية، إيطالية، إسبانية، أرمانية، أن نجلس في أحد المطاعم فيأتينا المتر اليوناني ليقدم لنا »‬المنيو» بابتسامة محبة، ووجه بشوش.
حان الوقت لكي تستعيد الأسكندرية مجدها القديم في استحضار روح الحضارة واستعادة الريادة كمنارة للثقافة والعلم والإبداع. وأن تضرب مثلا جديدا لعالمية المعرفة، وحوار الحضارات والشعوب. ما تم يوم الإثنين الماضي خطوة رائعة علي الطريق.


تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف