علاء خالد
الحياة الأخرى للأشياء الصغيرة
في فترة من حياتي ركزت فيها على شحذ موهبتي في التقاط الأشياء الدقيقة. لا أتذكر بالضبط كيف اكتشفت في نفسي تلك الموهبة، إلا بعد احترافي الكتابة. بدأت تظهر لي القيمة التي تحتفظ بها تلك الأشياء. وأتذكر كلام إحدى السيدات، التي قرأت ديواني الشعري، قالت لي ما معناه أن الأشياء الدقيقة وملاحظتها تخص المرأة أكثر من الرجل.
تعني أن الحميمية التي تعطي لهذه الأشياء الحياة، تنشأ من التصاق المرأة بعالمها الصغير، جسدها، غرفتها، حتى تلك الأشياء التي تتزين بها، تسهم في تجزيء هذا العالم وإسباغ مزيد من الدقة عليه. أما الرجل فنظرته كلية إلى عالمه المحيط، لأن مشكلته الأساسية هي كيف يثبِّت نفسه، لا أن يتأملها هي والعالم المحيط بها. أعدت التفكير في هذا الكلام، وجدت به بعض الصحة، وهو ارتباط الدقة والتفاصيل بمسحة أنثوية، تبغي بث الحميمية في العالم الصغير المحيط بنا. في الطفولة تتوزع الأدوار بدون أن ندري، تنبت بذور هذه الدقة، يبدأ الطفل في تفقد العالم الصغير المحيط به، عالم الأم.
ربما الجنين الدائم لهذا العالم، يجعله متمسكا أكثر بهذه الحدود، لا يريد أن يكبر. لو توقفت الحياة عند هذه الحدود ما حدثت أي مشكلة، ولكنْ هناك عالم آخر كبير لا يمكن تجاهله، وكلما زاد الإحساس بكِبر هذا العالم، ازدادت حدة الطفل في حماية عالمه الصغير، وفي تكديسه بالتفاصيل. هذا الطفل نفسه ربما يلجأ لحيلة أخرى، بأن يحمي نفسه من الِكبَر، من التقدم في العمر.
ماذا يعني التقدم في العمر سوى الطريق الذي له نهاية، وفي آخره ينتظر الموت بقوته الضاغطة. هل التمسك بحدود العالم الصغير وحمايته ليس إلا خدعة لشيء آخر، وهو البحث عن خلود لا يتسلل إليه الموت. كل ما كان صغيرا يصير في حياة أخرى كبيرا. يرجع الحنين للأشياء المنسية، بحكم دقتها وبساطتها، ليبث فيها ضخامة ما، يضيف إليها بعدا لم يكن موجودا بها. وربما أيضا، أن الأشياء الأولى تكبر هي الأخرى معنا، وتنمو في صمت، وتعيش حياة صامتة بالقرب منا. إننا لا نعيش عمرا واحدا يجعل هذه الأشياء ثابتة في حجمها، وفي درجة حبنا أو كرهنا لها، وإنما يتغير العمر بإيقاع صاعد وهابط، ومع هذا التغير تتغير نسب هذه الأشياء القديمة في ذاكرتنا، وفي نسب حبنا لها. الحنين الكامن في فكرة النمو نفسها، في تقدم العمر، في اختلاف بيت الطفولة عن البيوت التي ستأتي بعده. لا يمكن أن يكون الحنين مشاعا على كل ذكريات الطفولة، وإلا يفقد أهم عناصره وهو انتقائيته، ويتحول إلى آلة تعيد شريط الحياة كما هو، دقيقة بدقيقة. لأنه جوهري، فهو يتوجه إلى الأشياء الجوهرية، ينتقي من الذكريات ما يخدم الغرض الذي وجد من أجله. لا يتعارض هذا الحنين مع أحد أشكال الوعي الحديث الذي يحاول أن يقطع الصلة تماما بالماضي.
بالتأكيد هناك في الماضي أشياء يجب نقدها، بل والتخلي عنها. وهناك أشياء وذكريات تتجاوز النقد، ربما لأنها سحيقة في نفوسنا، وربما كذلك هي أحد الأعمدة التي تدعم الشخصية. فالشخصية لا تعيش فقط بالحقائق. أشياء الماضي غير قابلة للنقد، لأنها ببساطة غير قابلة للتغيير.
لا ينضج هذا الحنين إلا بعد أن يُهضم الطفل الذي كنَّاه ذات يوم، والذي عاصر موقعة بناء الذكريات، بعد أن يوسِّع هذا الطفل من حدود ملكيته الضيقة. أما من ظل محافظا على هذا الطفل الأناني، فقد أصبح حنينه ليس إلا عودة إلى الطفولة بكل ماديتها، ولا مسئوليتها، كذلك، حتى لو كانت اللا مسئولية هذه هي الألم نفسه. أما الحنين الآخر فهو عودة ولا عودة في الوقت نفسه. لأن الطريق الذي تقطعه رحلة العودة لم يعد يتوقف عند حدود الطفولة ورموزها، ربما يتعداها إلى طفولة أخرى، إلى الماضي والمستقبل أيضا، تجاه هذا الشيء الجوهري، الذي لا زمن له: البراءة. الطفولة، وبراءتها، إحدى صنائع الحس الديني، أو بمعنًى ما الحس الصوفي، ولا مهرب منها. التذكّر هو العمر الثاني لنا، الموازي لأعمارنا، حتى ولو أخفى هذا التذكر حنيننا للأم، لرموزنا المحملة بالأنوثة والحنان.
البحث في أصل من أصول الحياة غالبا ما يمر، ويتوقف أحيانا، بهذا المعنى الأمومي للحياة، المعنى الديني الحديث.
*جزء من نص بنفس العنوان نشر في طبعة محدودة من كتاب "طرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل"- كتاب أمكنة 1- الإسكندرية 2002.