المصرى اليوم
أحمد الدرينى
طلال سلمان.. ذاكرة مصر وذكراها
ينفث طلال سلمان دخان سيجارته، ويزفر زفرة حزينة، والدخان بين عينه وعينى ستار.

يقول: أنتم كمصريين لا تعرفون حجم تأثيركم، ربما لا تدركون أنفسكم!

قبل دقائق من لقائى بالصحفى اللبنانى الكبير فى مكتبه بمقر جريدة السفير اللبنانية، الأسبوع الماضى، كنت أقطع خطواتى فى شارع الحمراء أشهر شوارع بيروت، مسرعا للحاق بميعاد الأستاذ طلال.. بينما تمر بجوارى سيارة مسرعة يصدح منها بصوت عال أغنية أوكا وأورتيجا: العب يالا! تمرق الذكريات، تمرُ قفز غزال بين «سلمان» وبينى، ويحكى عن عبدالناصر كأنه لم يحك عنه من قبل، حتى ليكاد يتجسد الرجل بعينيه الزيتونيتين وطوله الفارع وعرضه المهيب وشعره الأشيب وصوته المميز بعد 48 عاما من رحيله. وأسأل نفسى: هل مصر هى عبدالناصر فقط؟ هل انقطع التاريخ بوفاة الرجل كما يعتقد محبوه الأكثر تشددا؟

إذا كان «ناصر» ثمرة- أيا كان مذاقها فى فم كل منا- من ثمار مصر.. فلماذا يعتقد البعض أن مصر هى التى كانت ثمرة من ثمار ناصر؟ وهل الفكرة فى الشخص أم الدور أم الخليط نفسه (تكوين البكباشى) مع (اللحظة التاريخية الخاصة) مع الدراما التى نشأت على ضفاف كل هذا أو أنشأها كل هذا؟ أحاول الوصول لإجابة، إذا ما سلمنا بصحة حسابات «طلال سلمان» ومعسكره فى مصر والعالم العربى، لعل فى الإجابة تكييف جديد لأسباب ما نحن فيه (أيا كان موقفك مما نحن فيه!). يحكى طلال سلمان عن الجماهير التى ذهبت مشيا لعبدالناصر بامتداد بلاد الشام لتسمع منه مباشرة خطاب الوحدة بين مصر وسوريا.. «جاء الناس بالمواصلات وعلى الحمير ومشيا على الأقدام من كل فج.. فقط كى يشاهدوا عبدالناصر».

يشرح لتساؤلى «المتغابى» سر ظاهرة عبدالناصر: كان زعيما على (المقاس).. بطوله البائن وسمرة بشرته وسماته الشخصية.

أقوله له: مضى ناصر، والآن؟

يمضى فى نفث دخانه المكلوم، ويشرح بموجب ستة عقود من التجول بين عواصم الشرق الأوسط ومحاورة الرؤساء والملوك العرب: سوريا بلد مهم، لكنها تقوم بدور المحرض التاريخى، أما القيادة الحقة فهى لمصر، ولا أحد غير مصر يمكنه قيادة العالم العربى.. وكل محاولات القفز على دور مصر تنتهى بصورة مأساوية للعرب جميعا كما ترى. يضيف: مصر «دولة» و«شعب» و«تاريخ» و«ثقافة».. هناك كيان يمكنه أن يواجه ويجابه، لذلك بلا مصر فلا تقوم للعرب قائمة. أقول لك؟ حين تقوى مصر تتراجع الطائفية فى لب��ان!

كان دافعى الأكبر لترتيب اللقاء مع الكاتب اللبنانى، صاحب التاريخ العريض، أن أسأله، ولو بصيغ التفافية غير مباشرة: لماذا تحب مصر؟

فالرجل بقلمه النابض منذ خمسينيات القرن الماضى هو واحد من قلة من الصحفيين والكتاب العرب الذين ما زالوا يكنون لمصر احتراما وحبا يليقان بقدرها، ولا يتنازلون عن رؤيتهم مهما كان بريق إغراء القول بغير هذا.

يحكى سلمان كيف أنشأوا السفير، فاختار معهم هيكل الاسم، ورسم حلمى التونى التصميم، وكتب محمود السعدنى المقالات سرا، وقام صحفيون مصريون بتأسيسها كتفا بكتف مع إخوانهم اللبنانيين. وكأن كل الحكاية من الصحافة للسياسة يمكن أن تنتهى بنا إلى مصر، زعامة وشعبا وأفرادا، وكأنى كنت أنا الآخر محفزا له ليتكلم وكأنى (من ريحة الحبايب).

يسرد الكثير من الحكايا والطرائف وأبطالها هيكل وبهاء الدين ومحفوظ والحكيم وإدريس.. من المنيل وقصر العينى حتى الأقصر جنوبا.

أستأذنه الانصراف، ولا أدرى أيُنا كان بحاجة لصاحبه، المحب المكبوت حبه (ولو دبج آلاف المقالات سنين عددا) أم المتسائل (وهو يعرف الجواب مسبقا) لعل فى جديد سرد للحجة والسبب والتعليل، يتعزز بداخله ما يريد له أن يتعزز ولو بطرق ملتفة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف