جمال سلطان
هاجم حفتر الانتخابات فتم تفجير مفوضيتها !
عندما عاد القائد العسكري الليبي خليفة حفتر من رحلة علاجه المثيرة في فرنسا ، لوحظ أن أول ما توقف عنده واهتم كثيرا بالحديث عنه هو مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقترح إنجازها في ليبيا برعاية أممية قبل نهاية هذا العام ، لإنهاء حالة الانقسام الوطني والضبابية المتعلقة بمستقبل ليبيا ، والجنرال العائد من رحلة موت عندما يهتم في أول ساعة من عودته لبلاده بهذه القضية فهذا يعني أنها بالنسبة له هاجس كبير مقلق ، وتحد خطير يثير توتره ، وقد سخر حفتر في كلمته من الانتخابات ووصفها بأنها "تمثيل" وهو استعارة لمصطلح القذافي الشهير "التمثيل تدجيل" الذي كان يحتقر به الديمقراطية النيابية وفكرة الانتخابات ، لأنه كان يحكم ليبيا من خلال لجانه الأمنية المتشعبة التي كان يسميها اللجان الثورية ، كما قال حفتر في كلمته أن رهان ليبيا لا يمكن أن يكون على "التمثيل" وإنما على الجيش لكي يحقق لليبيا كل ما تتمناه ، حسب قوله ، وهي دعوة علنية لعسكرة ليبيا وفرض الحكم العسكري عليها بعد ثورة فبراير التي ضحى الآلاف من شباب ليبيا بدمائهم وأرواحهم فيها من أجل وطن حر كريم .
لم يمض أسبوع واحد على هجوم خليفة حفتر على الانتخابات حتى وقع أمس الهجوم الإرهابي المروع على المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا ، ومقرها الرئيس في العاصمة طرابلس ، حيث قتل قرابة خمسة عشر شخصا وأصيب آخرون في هجوم انتحاري ، وقد أعلن بيان منسوب إلى تنظيم داعش الإرهابي مسئوليته عن العملية ، والمشكلة دائما لا تكون في "الواجهة" أو الأداة وإنما في أصحاب التوجيه وأصحاب المصلحة الاستراتيجية ، لأنه سيكون من السخافة تصور أن داعش استهدف مفوضية الانتخابات تحديدا بعد أيام من تهديدات حفتر ، واعتبرها أولوية قصوى لعملياته الإجرامية بشكل اعتباطي وعفوي وبريء ، يستحيل الفصل بين الأمرين سياسيا وأمنيا .
عقب التفجير الإرهابي بساعة واحدة ، خرجت أصوات أعضاء مؤيدين لحفتر في برلمان طبرق بشرق ليبيا يهاجمون مفوضية الانتخابات ويشككون في جدوى دورها ويتهمونها بعدم الحيادية ويطعنون في سجلات الناخبين ، ويطالبون بنقل مقر المفوضية من العاصمة طرابلس بحجة أنها غير آمنة وأن بها ميليشيات ، باعتبار أن من في بنغازي من ميليشيات تتصارع على تهريب المخدرات والنفط هم جيش ! ، وكأن التفجير الإرهابي كان إشارة البدء في الهجوم على مفوضية الانتخابات .
حفتر وداعموه ، يدركون أنه مكروه في عموم ليبيا ، ولا رهان عليه إلا من بعض أبناء قبائل الشرق وتجار المخدرات ومهربي النفط وبقايا كتائب القذافي ، ممن يربطون مصالحهم ومصيرهم بوجوده ، وهو ينفق هناك بسخاء كبير ، بفعل الدعم المفتوح من الإمارات ، ماليا وعسكريا ، ولكنه عند الانتخابات يدرك أن فرصته ضعيفة للغاية ، لأن كثيرا من الليبيين يعتبرونه مجرم حرب ، كما يدرك أن الانتخابات البرلمانية قد تفرز برلمانا حقيقيا مختلفا عن الصيغة التي تلاعبت بها الإمارات من قبل وانتهت إلى برلمان "طبرق" ، وبالتالي يدرك حفتر أن الديمقراطية ستكون نهايته في ليبيا ونهاية مشروعه ، وأن الانتخابات ستكون بمثابة قرار طي صفحته وموت مشروعه السياسي والعسكري الذي كان يأمل من خلاله في القفز على السلطة في انقلاب عسكري شامل ، ويمسك بقرار البلاد واقتصادها ومصيرها بقبضة أمنية وعسكرية من حديد .
هناك إجماع دولي الآن على أن الحل في لييبا لا يمكن أن يكون عسكريا ، لأن في ليبيا الآن جيشين في الواقع ، جيش يرأسه حفتر في الشرق وجيش آخر يرأسه حكومة الوفاق المعترف بها دوليا ومقرها العاصمة طرابلس ويسيطر على أغلب أراضي ليبيا ، كما أن في ليبيا العشرات من الكتائب المسلحة ، لا يمكن أن تفككها عسكريا إلا بصراع دموي لسنوات ستدفع ليبيا ثمنه الفادح من مقدراتها ودماء أبنائها ومن وجودها نفسه ، لذلك لا أحد في العالم الآن ـ باستثناء الإمارات ـ يراهن على الحل العسكري ، والأمم المتحدة تؤكد على الخيار السياسي وعلى الانتخابات ، والولايات المتحدة وحلفائها ، بما في ذلك المعسكران المتعارضان ، إيطاليا وفرنسا ، وحتى مصر ، الكل اقتنع في النهاية أن الحل في ليييا حل سياسي وليس عسكريا ، والحل السياسي لا سبيل له إلا الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة واحترام الحكم المدني ورفض فكرة الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ، وهذا كله يمثل كابوسا أمام طموحات الجنرال خليفة حفتر ، لذلك هو يعمل كل ما في وسعه لإفشال هذا الحل ، بافتعال معارك دموية في شرق ليبيا وجنوبها ، أو بتفجيرات في غربها والرهان على ما يسميه فريقه "الخلايا النائمة" في الغرب .
طريق حفتر مسدود ، وفي النهاية لن يكون أمامه ـ ولا أمام داعميه في الإمارات ـ سوى الاستسلام لقرار المجتمع الدولي وقرار الشعب الليبي ، هو يدرك ذلك جيدا ، ولذلك يخوض الآن معركة الأمتار الأخيرة لإفشال مسار الانتخابات والخيار الديمقراطي ، ستكون هذه الأمتار دموية بطبيعة الحال ، ولكنه سيفشل في النهاية في إعاقة المستقبل المدني الديمقراطي لليبيا الجديدة ، ليبيا الحرة .