خالد جبر
العودة للجذور.. كل مصري يوناني
أضواء وظلال
عشت فترة من طفولتي في حي عابدين الذي ولدت فيه.. في منزل كان معظم ساكنيه من اليونانيين الذين كانوا يعملون في مصر في وظائف مختلفة.. وكان حي عابدين هو المفضل لأبناء الجالية اليونانية في القاهرة.. وصلت أعدادهم إلي الآلاف.. يعيشون كأنهم أبناء وطن.. يعشقون مصر وشعبها ولا يشعرون بأي غربة.. فالكثير منهم ولد في مصر وبعضهم ولد لأبوين ولدا في مصر.. لهذا كانوا مصريين وطنا ووقلبا.
كنا نتزاور كثيرا مع الأسر اليونانية ونتبادل التهاني في الأعياد.. وكنت طفلا لا أدرك الفارق بيننا.. لذلك كنت أستمع إلي الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وهو يغني : كل مصري يوناني.. وذلك قبل أن أدرك أنه نشيد الجهاد للشاعر الكبير مأمون الشناوي ويقول مطلعه : كل مصري ينادي.. أنا ملك لبلادي.
تواجد اليونانيين في مصر في كل بيت وكل شارع وحارة.. وعملوا في كل مهنة.. ورفضوا الرحيل عقب ثورة يوليو التي لم تكن ترحب كثيرا بالجاليات الأجنبية.. التي كان رموز الثورة تعتبرهم من المتعاطفين مع العهد الملكي.. مع أنهم بعد ذلك أثبتوا انتماءهم للوطن.. وتجلي ذلك الانتماء برفض المرشدين اليونانيين العاملين في قناة السويس بالرحيل بعد أن رحل كل المرشدين الأوروبيين عقب تأميم القناة عام ١٩٥٦.. وشارك اليونانيون المصريين كل أفراحهم وهمومهم.
ويقول كتاب تاريخ الجاليات في مصر إن الجالية اليونانية في مصر تستطيع أن تفخر بأمرين عظيمين … الأول هو أن رجالها قد نجحوا كأفراد أولا وكجماعة ثانيا … نجح كل منهم في أن ينشئ كيانا اقتصاديا محترما.. عرف كيف يشق طريقه في الغربة بجهد ذراعه.. بالصبر والكد والجلد والأخلاق.. ونجحوا كجماعة لأنهم عرفوا كيف يكونون وحدة متضامنة متعاونة في سبيل الخير.. والأمر الثاني أنها تتمتع من أهل هذا البلد بحب عظيم … لأنها في كفاحها نحو الحياة أدت له ولأهله من الخدمات شيئا عظيما… ويكفي للدلالة علي مدي التوفيق في الناحية الثانية أن المصري لا ينظر إلي اليوناني علي أنه أجنبي… لقد أصبح جزءا لا يتجزأ من كيان هذا البلد… والصداقات القائمة بين اليونان كأفراد وبين المصريين.. وبين مجموعة اليونان كجالية والشعب المصري أعظم دليل علي ذلك.. وهجرة اليوناني إلي مصر قديمة جدا.. إنها ترجع إلي فجر التاريخ المصري القديم.. فمن الثابت الآن أن أول من سكن دلتا النيل مهاجرون من جزائر بحر إيجه.. وفي العصور الحديثة عرفت مصر اليونان من أوائل القرن السابع عشر… وعندما نهضت مصر في أوائل القرن التاسع عشر، كان اليونان من أكبر العاملين علي نقل الحضارة الغربية إلي مصر.. أو نقل مصر إلي الحضارة الغربية.. وفي سنة 1840 كانت جالياتهم في مصر قد اتسعت وزادت وتولت من الأعمال في الميدانين الصناعي والتجاري ما جعلها موضع الرعاية والحب والعناية من كافة المصريين.
العودة إلي الجذور.. المهرجان الذي دعت إليه مصر ورعته واستضافته في الإسكندرية هذا الأسبوع أعادني إلي ذكريات جميلة وقديمة.. وحضور الرئيسين اليوناني والقبرصي جعل منه مشروعا ناجحا يحظي باهتمام رسمي وشعبي.. فإن من المؤكد أن كلا الرئيسين يملك في عائلته شخصا أو أكثر ولد أو عاش في مصر.
الرئيس السيسي بذكائه الشديد أعاد إلي الصورة تلك العلاقات المتميزة بين الدول الثلاث.. وأعاد إلينا حقبة جميلة من تاريخ مصر.. كلها حب وتسامح واندماج.. في مقابل الحقبة التركية التي امتلأت بالحقد والتعالي.. والدم أحيانا.
بالطبع.. فإن الرسالة التي تبعثها مصر إلي تركيا واضحة.. ولكن الرسالة التي تبعثها إلي العالم أكثر وضوحا.. مصر تفتح ذراعيها للعالم كله.. ترفع راية السلام والمحبة.. ترفض الظلامية والرجعية.. تحارب الإرهاب وتقتلع جذوره.
مصر لا تنسي كل من أحبها.. وعاش فيها بسلام.. لا تنسي كل من قدم لها الخير والحب والتسامح.