كرم جبر
ضوء أحمر للأحزاب القادمة !
إنها مصر
أهم من »الحزب الحاكم» هو »الحزب المعارض»، لأن أناسا بطبيعتها تكره التأبيد وتحب التغيير، ودرس الحزب الوطني يجب أن يكون ماثلاً في الأذهان.. الحكومة تحتاج لحزب يقف في ظهرها، ويدعمها ويساند سياساتها، والديمقراطية لا تستقيم إلا بحزب معارض، يراقب ويحاسب ويثري الحياة السياسية، ولن تنجح التجربة إلا إذا تم الاتفاق علي العمل تحت مظلة وطنية، يلتزم بها الجميع، وأهم بنودها المحافظة علي مؤسسات الدولة، وإقرار التداول السلمي للسلطة عن طريق صندوق الانتخابات.
تجارب الماضي يجب استخلاص دروسها بشدة، فعندما أراد السادات تشكيل حزب معارض، اختار عديله محمود أبو وافية ليكون أميناً عاماً لحزب العمل الذي يرأسه المهندس إبراهيم شكري، الذي ضم عددا من المعارضين الأقوياء مثل محمود القاضي وحلمي مراد وأحمد مجاهد، ولكن أبو وافية لم يستطع السيطرة علي الحزب فاستقال، وتزامن ذلك مع تأسيس الحزب الوطني 1978 بديلاً لحزب مصر، وحزب الوفد برئاسة فؤاد سراج الدين.. وكانت المؤشرات تبشر بحياة ديمقراطية سليمة.. ولكن دخلت البلاد في نفق المزايدة السياسية المدمرة، بعد توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وقام السادات بحل مجلس الشعب 1979، وتعديل قانون الأحزاب بعدم السماح بقيام أي حزب يعارض السلام مع إسرائيل، ومبادئ ثورة يوليو.
كان من المفترض أن تبتعد الأحزاب عن دوامة الصراع بالقضايا الوطنية والمزايدة علي المواقف السياسية، وأثبتت الأحداث بعد ذلك أن السادات كان علي حق، في سعيه لإحلال السلام واسترجاع سيناء، واعترف كثير من معارضيه بحكمته وحنكته بعد سنوات من معارضته، التي وصلت إلي حد التخوين.
الضوابط الدستورية والقانونية مهمة، لعودة الحياة الحزبية علي أرضية نظيفة تثري التجربة وتدفعها للأمام، وتؤمن البلاد من آتون الصراع، وإيقاع الرأي العام في دوامة الاختلاف، أكثر مما هو حادث الآن.
من أهم الضوابط لتأمين الحياة الحزبية: سد الثغرات أمام عودة الأحزاب الدينية، مثلما حدث مع حزب العمل »الاشتراكي» الذي انقلب إلي »إسلامي»، ودخل في صراع مرير مع السلطة.. وضرورة الاتفاق علي المظلة الوطنية التي لا تخرج عنها الأحزاب، وتحفظ أمن البلاد واستقرارها، ووفقاً لما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية في الدول المتقدمة.. وترسيخ مبدأ الانتخابات النزيهة الشفافة التي استقرت في السنوات الأربع الماضية.. وعدم التضييق علي أحزاب المعارضة في مزاولة أنشطتها شريطة احترام القانون.
ليس العدد في الليمون كما يقول المثل، ولا يعرف أمهر الساسة عدد الأحزاب التي تأسست بعد 25 يناير حتي الآن، وبعضها لا يتجاوز عدد أعضائه أرقاماً هزيلة، وليس لها مقار ولو غرفة واحدة، الأهم أن تدب الحياة في الجثة الكائنة في غرفة الإنعاش، والأهم أن يشعر الناس برغبة حقيقية في تبني قضاياهم والتعبير عنهم، لملء الفراغ السياسي الذي تشغله الاتجاهات المتطرفة، والسماح لأجيال الشباب التواقين للمشاركة، بالعمل تحت أطر مظلات شرعية، تعيد اكتشافهم وتدفعهم في الشرايين المجمدة.
استخلاص عبر ودروس تجربة مصر الحزبية منذ عودة الأحزاب في نوفمبر 1976، أضواء كاشفة للسير في طريق المستقبل.. وأهم الأسئلة: لماذا بدأت واعدة وانتهت بالفشل؟.. ولماذا احتكر الحزب الوطني وحده السلطة حتي كان الاحتكار مسماراً في نعشه؟.. ولماذا فشلت أحزاب المعارضة في إيجاد وسائل للتعايش السياسي مع السلطة القائمة؟
الذين يتقدمون باندفاع كبير، يتراجعون بسرعة أكبر، وأمام البلاد فرصة تاريخية لإحياء الحياة الحزبية التي يحلم بها الناس.. بشرط »تطهير» الأرض قبل البناء عليها.