الأهرام
د. نصر محمد عارف
نهاية قرن الديمقراطية
خصصت مجلة «فورن أفيرز» الأمريكية عددها الأخير لشهرى مايو ويونيو 2018 لموضوع رئيسى حمل عنوان «نهاية القرن الديمقراطي»، وعبر ثلاثة مقالات رئيسية تمت مناقشة الاطروحات المتعددة حول هذا الموضوع، والتى أكدت جميعها أن الديمقراطية الليبرالية تمر بأزمة تاريخية؛ تشبه أزمتها فى ثلاثينيات القرن الماضي؛ عندما صعدت النظم النازية والفاشية فى أوروبا؛ واختلف الكتاب حول النهايات، فرأى بعضهم أن النظام الديمقراطى قادر على أن يستعيد عافيته، ويجدد نفسه، بينما أخذ فريق آخر الجانب التشاؤمى مؤكدا أنها النهاية التى لا رجعة بعدها. وقد بنى الذين قالوا بنهاية القرن الديمقراطى حجتهم على خمس ظواهر كبرى يشهدها العالم المعاصر، وتشكل نقطة تحول جذرية فى تاريخ النظم السياسية فيه، وهذه الظواهر الخمس هي: أولا: صعود النظم السلطوية فى الصين وشرق أوروبا، ومناطق اخرى من العالم، والجديد فى الأمر أن سلطوية القرن الحادى والعشرين مسالمة هادئة، لا تحمل أى توجهات عنصرية أو عنيفة، مثل النازية والفاشية فى القرن العشرين، وهذه السلمية تجعلها أكثر خطورة، لأنها لن تستفز المجتمعات، ولن تخلق عداوات، ولن يجد خصومها مبرراً لمهاجمتها، أو الاعتداء عليها. ثانيا: أن القوة الاقتصادية فى العالم أصبحت فى يد النظم غير الديمقراطية أو السلطوية، فلأول مرة فى التاريخ تميل كفة الميزان الاقتصادى العالمى لصالح النظم التى لا تتبنى الديمقراطية الليبرالية الغربية، فبعد أن كانت قوة النظم غير الديمقراطية فى القرن العشرين لا تتعدى 16% من الاقتصادى العالمي، أصبحت هذه النظم تستحوذ على أكثر من نصف الاقتصاد العالمي، وهذا يضعف من قدرة الدول الديمقراطية وتأثيرها على باقى دول العالم. ويؤكد الباحثون محورية دور القوة الاقتصادية، وتأثيرها فى عملية نشر الديمقراطية، ودفع الدول الفقيرة الى تبنيها، واستخدام سلاح المعونات والعقوبات لفرض المعايير والقيم الديمقراطية الغربية، ودون وجود الأدوات الاقتصادية ستكون الدول الغربية عاجزة عن دعم المسار الديمقراطى فى العالم. ثالثاً: لأول مرة فى التاريخ تفقد الدول الديمقراطية الغربية احتكار القوة الثقافية والعلمية، فبعد أن كانت الثقافة والفنون، والفكر والعلوم حكراً على الدول الغربية ذات النظم الليبرالية، أصبحت الدول غير الديمقراطية تستحوذ على قدر كبير ومؤثر من الإنتاج الثقافى والفنى والسينمائي، والفكرى والعلمي، وإنتاج الابتكارات والاختراعات بصورة هددت التفرد الغربى بصناعة عقل وذوق العالم. وهذا بدوره يمثل تهديداً من نوع جديد للقيم الديمقراطية، فلم يعد الإنتاج العلمى والفكرى والثقافى المتميز مقصوراً على المجتمعات التى تتبنى النظام الديمقراطى الليبرالي، بل أصبحت مجتمعات أخرى تتبنى نظما مختلفة تنتج ثقافة وفكراً إنسانيا راقياً.رابعاً: اختراق المجتمعات الغربية ذاتها من قبل وسائل إعلام مملوكة لدول ليست ديمقراطية، وتأثير هذه الوسائل على تشكيل الرأى العام فى الدول الغربية، ويصاحب ذلك ثورة المعلومات والتواصل بين البشر التى وفرتها شبكة المعلومات الدولية، ووسائل التواصل الاجتماعى المحمولة عليها، كل ذلك أحدث اختراقا قيمياً فى المجتمعات الديمقراطية ذاتها، بحيث صارت لا تشعر بالتفرد، والفوقية، بل أصبحت ترى الديمقراطية نظاما من النظم، وليس النظام الوحيد الذى يجب أن تكون عليه جميع النظم. خامساً: قدرة النظم غير الديمقراطية على اختراق النظم الديمقراطية، والتأثير فى اختياراتها، وإظهار أن أهم الوسائل الديمقراطية وهى الانتخابات من الممكن أن يتم التحكم فيها عن بعد، وتوجيهها وجهة تخدم أطرافاً خارجية، وهنا كان مثال الاختراق الروسى لانتخابات الرئاسة الأمريكية حاضرا. ويخلص هذا الحوار الى إعادة تكرار مقولة «بنجامين فرانكلين» أحد واضعى الدستور الأمريكي، حين سألته سيدة وهو يخرج من ملتقى عرض الدستور عام 1787، «دكتور فرانكلين ... على ماذا حصلنا؟ جمهورية أم ملكية؟ ... فكان رده: سيدتى إنها جمهورية إذا استطعتم المحافظة عليها!. نظم الحكم هى نتاج لإرادة الأفراد وأحلامهم، وفى عصرنا الحالى لم يعد البشر ينشغلون كثيرا بشكل النظام السياسي، ولا بطريقة الوصول الى السلطة، لان ثورة المعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعى أحدثت تغييرات جذرية فى مجمل مؤسسات العملية السياسية ووسائلها، فوسائل التواصل الإجتماعى أصبحت تقوم بدور الأحزاب وجماعات الضغط، وبعض أدوار المجالس التشريعية والرقابية...الخ. لقد انتقل الفكر البشرى الى معيارين أساسيين لجودة نظم الحكم وجدارتها وقبولها وتميزها، وهما: أولا: حكم القانون؛ بكل ما يعنيه من سيادة القانون، وعدالة القانون، والمساواة أمام القانون، ونفى الظلم والفساد والمحسوبية، وكل الطرق السلبية التى تنتقص من العدالة، وتجهض تحقيقها، وتحرم بعض المواطنين من الحصول عليها، وقد أثبتت التجربة التاريخية القريبة أن هناك دولا استطاعت أن تحقق التنمية والرفاهة، وتنطلق فى مضمار التقدم الاقتصادى والاجتماعى بالاعتماد على حكم القانون وليس الديمقراطية. ثانيا: الحوكمة؛ بما تشمله من الرقابة والشفافية والمحاسبة، وهى مكملة لحكم القانون ولكن فى الجانب الإدارى فى جميع المؤسسات العامة والخاصة، بما يضمن جودة العمليات الإدارية وشفافيتها، ويحقق العدالة. فالقرن القادم فى ظنى سيكون قرن حكم القانون والحوكمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف