الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
قبل أن يندهش العالم من وجودنا
وقف الإنسان المصرى الحالى فى مقابل نِدِّه المستحدث، الأول بنى آدم من عموم المطحونين فى واقعنا، موظف فى واحدةٍ من إدارات مصلحة الضرائب على المبيعات، أعياه واقع العالم الجديد، يُصارع أقساطاً وجمعيات وديوناً للبقال والفرارجى والصيدلي، كما يُصارع قيماً زرعها الأب الراحل فى وعيه، رفض لتوه عرضاً مغرياً من نِدِهْ المستحدث يتمثل فى قرابة نصف مليون جنيه مقابل الملف الخاص بأحد الممولين، وسحب الأول الثانى من يده وسلمه وملفه للمدير وبدأت إجراءات سداد مستحقات الدولة المجموعة من جيوب المواطنين.

أنهى الثانى إجراءاته وفى أثناء خروجه من مكتب المدير وجد السكرتير يعاير الموظف بالسيجارة المصرى التى أعطاها له مازحاً (معكش حق السجاير بتدخن ليه؟)، نظر الممول للموظف المصرى بقرف شديد وقال (يعنى يا معفن مش لاقى حق سيجارة مصرى ورافض نص مليون جنيه، دا إنت مش إنسان أصلاً، روح شوف لك طربة وادفن نفسك فيها) قالها ورحل، وحملها الموظف فى نفسه، نفث دخان سيجارته المشحوتة، ولم ينفث كلمات الممول، وخاصة ذلك التوصيف (إنت مش إنسان أصلاً)، وسأل كثيرين ممن حوله (هل هو فعلاً مش إنسان)، ولأن عدداً كبيراً منهم أكدوا له ذلك، حمل سؤاله إلى كاتب هذه السطور، وسهرنا ليلة كاملة نحاول إقناع أنفسنا أننا حقاً نستحق لقب (إنسان)!، ولسنا مجرد رقم فى عالم رقمى جديد يرعاه نظام عالمى كان حتى وقت قريب يحتل مباشرة منطقتنا.

إن هذا التساؤل يحيل إلى التدبر فى مشهد الحال للإنسانية المصرية، الذى تعلو صرخات أوجاعه، حركة عشوائية صاخبة ينتجها (أشباه مواطنين) أنتجتهم عصور من الفساد والإفساد الداخلي، والتربص السرى والعلنى الخارجي، حتى استشرت جراثم الشَبَهِيَّةْ فى سائر مكونات الوطن مُخَلِّفة عِلة مزمنة تشخيصها بحسب إجماع المُتَنبهين هو (شبه دولة).

فى العالم الجديد الإنسان (رقم)، وفى أصل الفطرة الإنسانية الإنسان هو خليفة الخالق على أرضه، نفخ فيه من روحه لتسمو مكوناته فوق المادة، وليُصبح (العقل) هو لوحة التحكم فى ضبط الإيقاع بين المادة والروح، وكلما تنامى تفعيل العقل تسامى الأداء الإنسانى بناءً، لينتج من الحضارة ما يؤهل لخلود نماذج الإعمار فى الأرض، دليلاً يهتدى به إنسان المستقبل على مكامن قوته عندما يشيع خطاب الوهن.

إنسان عالمنا القريب والمحيط، ساقط تماماً من حسابات إدارة هذا الكوكب المتسيدة، وهذا الواقع لا يحتاج لسرد أدلة ثبوته، ويكفينا فقط أن نذكر إجمالاً أسماء دول مثل (فلسطين العراق سوريا ليبيا اليمن)، تاركين للضمير الإنسانى حساب أعداد الملايين من الضحايا ما بين قتل أو جرح أو اغتصاب أو تهجير، ويكفينى أن أربعة عقود من وعى جيلى تشكلت وهى تتابع نظاماً عالمياً يرفض مجرد خدش إحساس مواطنى دولة الاحتلال بإنكار محارق النازية لليهود، بينما لا يرتد لنفس النظام جفن وهو يتابع جرائم إنكار حق الإنسان العربى فى الحياة.

إن إنسان عالمنا بات فى مهب ريح عاتية، تؤكد جميع الرؤى والأطروحات التى ترعاها أنها تستهدف (بناء عالم جديد- شرق أوسط جديد)، وهو ما لا يمكن تمامه إلا باقتلاع منطقتنا من الجذور المتشعبة حضارة وقيماً وأوطانا، وبالتالى خلع الإنسان عن كل سمات إنسانيته التى خلفت حضارته القديمه، ومن ثَمَ إنتاج أجيال جديدة تشكلت إنسانياً باعتبارها مجرد أرقام فى تسلسل عالم رقمى جديد مفاتيحه لدى إدارة النظام العالمي، التى تتجاوز فى تحكمها جميع الإدارات المحلية التى ترهن ثباتها على خريطة الأرقام برغبة المتحكم فى لوحة المفاتيح العالمية. إن مواجهة الزحف الرقمى على إنسان عالمنا العربي، يتجاوز قدرات الإدارات المحلية ومشاريعها، حيث إن واقع الشبهية قد أفرزها وبالتالى طالها من أمراض الواقع ما طال أصغر مكوناته (شبه المواطن)، ولا يمكن اعتباره شأناً حكومياً أو نظامياً، فاختلال منظومة القيم وسيادة قوانين الرقم تهديد مباشر لطبيعة الفطرة الإنسانية، والتصدى لهكذا تهديد مسئوليته جمعية لا فردية، وعامة لا مجرد نظامية، وغايتها مستقبل الإنسان والأوطان، لا مجرد ثبات الإدارة والنظام، ويستوى فيها المؤيد مع المعارض، فالجميع فى ساحة الإنقاذ مسئول، لأن الكل بشيوع التهديد مشمول. لم يكن فى جيب الإنسان المصرى ثمن علبة تبغه ولكن ذلك لم يمنعه من رفض نصف مليون جنيه، ليس لأنها رِشوة وفقط ولكن لأنه ارتآها سرقة لوطن أنهكته السرقات، لم يتردد فى الرفض ولم يوجعِهُ التعفف، وإنما ضرب الوجع أركانه حين توحش الفساد فَعَيَّره (إنت مش إنسان أصلاً)، وفى مواجهة هذا التوحش يصبح على كل معنى بالإنقاذ أن يعلن النفير لصياغة مساراته، على جميع المجالات حتى لا نستيقظ ذات صباح لا قدر الله، فنجد ممثلى العالم الجديد يدقون أبوابنا متسائلين (إنتوا لسه عايشين)؟!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف