أنور عبد اللطيف
التعليم كالماء والقمامة وقش الأرز!
تركت ضجيج العاصمة، والغضب على الدكتور طارق شوقى، لأنه قرر إلغاء التعليم التجريبى، إلى مرسى علم الساحرة كنت أسير مع الدكتور مصطفى فودة الخبير الدولى ومستشار وزير البيئة فوق جزيرة بحرية تتبع محمية وادى الجمال، باتجاه غابة المنجروف الموحشة، وبينما كنت أمشى مأخوذا بسحر المكان كان العالم الجليل يتحسس مواطئ قدميه فى حرص شديد ويكاد يطير عن الأرض تقديسا لأهل المكان بحيث لا يقتل نبتة أو يكسر صدفة أو يؤذى زاحفة أو يزعج أى كائن حى، وكأنه يتمثل قول أبى العلاء المعرى: سر إن استطعت فى الهواء رويدا / لا اختيالا على رفات العباد، رب لحد قد صار لحدا مرارا/ ضاحك من تزاحم الأضداد ،
انحنى العالم الجليل والتقط قفصا صدريا ناشفا، وقلبه بين يديه فى ألم وكأنه ينعى عزيزا لديه، وقال: سلحفاه مصرية بحرية اسمها العلمى تيستيودنيس testudines ، تسمى بالعامية الترسة البحرية وهذه الدروع العظمية حول جسدها النحيل كانت حماية مصفحة لوقايتها من الأسماك المفترسة، ربما خرجت لتشم الهواء أو استعانت بالأمواج لأخذ حمام رملى على الشاطئ، فانقض عليها صقر الغروب الذى تعيش آخر سلالاته بكثرة فى هذه المنطقة التى مازالت تحتفظ ببكارتها، وما تذخر به من عوالم بيئية نادرة، وإذ لم ننتبه إلى حماية واحات الأمل القليلة الباقية الموزعة على 30 محمية طبيعية وتشكل 15 بالمائة من مساحة مصر سيمتد الجشع الاستثمارى بمنشآته المسلحة ليفسد هذا الكنز الذى وهبته الطبيعة للمصريين، فسألته للمعرفة لا للاستفزاز: أليس العدوان البشرى ضمن حكمة التوازن الطبيعى الذى خلقه الله لإقامة سنة الحياة على الأرض فالإنسان هو أحد الكائنات مثله ـ مثل صقر الغروب والثعابين يفرض التوازن على طريقته؟
وبقدر ما استفز السؤال صديقى لأنه دمر كل جهود وزارة البيئة بقدر ما أشبعتنى الإجابة بأن الله قد حمل الإنسان أمانة العقل والرحمة بعد عرضها على السموات والأرض والجبال، ودعانى إلى تأمل تكليف سيدنا نوح ببناء السفينة لحماية أنواع المخلوقات الحية . كانت مناسبة الزيارة دعوة كريمة من وزير البيئة الدكتور خالد فهمى للمشاركة فى ورشة عمل من الخبراء والعلماء والصحفيين للإعداد للمؤتمر الدولى الرابع عشر لاتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجى الذى يعقد فى شرم الشيخ من 10 إلى 22 نوفمبر المقبل، برعاية الرئيس السيسي ، وقد أتيحت لنا خلال الورشة والمحاضرات جولة فى واحدة من أهم المحميات الطبيعية فى العالم مما أتاح لى مشاهدة جهود هذه الوزارة ومحاولات إنقاذ آخر أنصبة مصر من كنوز الحياة الطبيعية والأعشاب البحرية والمرجانية والحيوانية والنباتات البرية. ورغم الميراث الثقيل من المشكلات البيئية حدثنا الوزير عن التفاوض مع أطراف المشاكل على أرض الواقع لإعداد حلول وقد بدأ تطبيقها بالفعل ولكن حينما يرتبط الأمر بالمصلحة العامة هل هناك مجال للتفاوض السياسى؟ ـ يجيب الوزير خالد فهمى: انتهى زمن الوزير الباشا الذى يعرض عليه القانون فيؤشر بالسيجار وبدأ عصر الوزير السياسى الذى ينزل الملعب والميدان ويدرس على الطبيعةٍ، فيتفاوض ويشرح ويميل للتدريج والموائمات، لذلك كان هدفنا كله ان نجعل المواطن يجرى وراء الزبالة ولا تجرى الزبالة وراء المواطنين بخلق «المصلحة» الاقتصادية من بيع الزبالة والمخلفات بـ 350 جنيها للطن بدلا من إلقائها فى الشارع وسعرنا طن قش الأرز بـ 50 جنيها، وبمنطق «المصلحة» شجعنا تجديد السيارات القديمة وربطنا الصرف الصناعي فى النيل بالقروض، كما أن قانون المحميات الطبيعية ينشء هيئة اقتصادية تسمح بأنشطة شراكة مع جمعيات أهلية من داخل سكان المحمية لتشجيع الحرف اليدوية. وهنا لابد من دعم طلبات وزير البيئة لوضع مفهوم جديد لإدارة المحميات الطبيعية يختلف عن سياسة «لامساس» فقد تغيرت الدنيا ولم تعد المحميات مجرد مكان معزول بل صارت عامرة بالأنشطة بالشكل الذى لا يخل بالتراكيب البيئية، كما أنه لا مفر من الضغط لإصدار قانون السلامة الإحيائية، الذى يحل مشاكل تنازع الولاية والاختصاص بين ولاية جهاز البيئة وهيئة التنمية السياحية والصناعية. ورغم أن وزارة البيئة تتحمل كل مشكلات مصر من عادم السيارات وتلوث النيل حتى مخرات السيول وارتفاع الارصفة والنظافة فى المدارس إلا أن خالد فهمى يقبل هذه المسئولية من منطلق قدره كوزير سياسى يؤمن بأن مجلس الوزراء فريق عمل واحد، وفى النهاية نأمل أن يكون المؤتمر المرتقب فرصة لاصدار توصية تمنع التداول والاتجار فى الكائنات والحبوب المعدلة وراثيا الا بعد التأكد من أمانها على الصحة العامة، ووقف عمليات النهب المنظم لأنواع محددة من البذور والمحاصيل التى تمارسها الدول التى تمتلك الهندسة الوراثية،. وأعود إلى مفهوم «الوزير السياسى» والضجة التى أثارها قرار وزير التعليم المفاجئ بفرض نظام نحتاجه لتطوير التعليم الفاسد والإخراج السيء الذى لم يوضح عدالة التطوير و«مصلحة» الناس، وأقترح على معاليه استصدار قانون يجبر الخريج على اجتياز اختبار للغة العربية قبل التعيين أو الترقى فى المناصب الرسمية، حينئذ لن يصبح لن يصبح تعلم العربية ضرورة حياة كالماء والهواء بل «مصلحة» مثل والقمامة وقش الأرز !