الوطن
د. محمود خليل
الأزارقة
مثّلت جماعة «الأزارقة» واحدة من أشد فرق الخوارج شراسة فى التاريخ الإسلامى. وهى جماعة يعود الفضل فى تأسيسها إلى «نافع بن الأزرق»، وإليه تنتسب. وقادها من بعده قطرى بن الفجاءة، وهو واحد من أشعر شعراء عصره، وكان مقاتلاً شرساً بايع نافع بن الأزرق على الولاء لفكرة تكفير الآخر، والبراء من مخالفيهم، وإشهار السلاح فى وجوههم. دروخت جماعة «الأزارقة» الدولة الأموية لمدة تقترب من عقدين من الزمان، ورافق الفشل الكثير من المحاولات التى سعى خلفاء بنى أمية من خلالها للقضاء عليهم. ويكفى فى هذا السياق أن نذكر محاولات واحد من أشد القادة العسكريين فى التاريخ الأموى وهو الحجاج بن يوسف الثقفى، الذى ظل يقاتلهم ما يقرب من عقد ونصف من الزمن دون أن يفلح فى القضاء عليهم.

تتعجب -وأنت تقرأ تفاعلات التجربة المثيرة للأزارقة- من حالة التشابه بين تفاصيل المواجهة التى خاضتها تلك الجماعة ضد الدولة الأموية، والمواجهات الحالية التى يخوضها خوارج العصر. ستجد فكرة «تحالفات المصالح» حاضرة بقوة كوسيلة يستقوى بها الخوارج بغيرهم من قوى المعارضة فى التكتل ضد أنظمة الحكم. ستجد أيضاً مبدأ «الولاء والبراء»، وهو واحد من المبادئ الأساسية التى بلورها تنظيم الأزارقة، واعتمد عليها فى إدارة علاقاته مع خصومه السياسيين. والأغرب من ذلك أنك ستجد حوادث اقتحام السجون من جانب الخوارج حاضرة أيضاً. ويسجل التاريخ أن أول واقعة اقتحام للسجون قام بها الخوارج تزامنت مع ثورة أهل البصرة على الوالى الأموى عبيد الله بن زياد، حين كسروا باب سجن البصرة، وأخرجوا رفاقهم من الخوارج الذين حكم عليهم الوالى بالسجن. كل هذه الممارسات أبدعها «نافع بن الأزرق»، الأمر الذى يجعل وصف «الأب الروحى لخوارج العصر» منطبقاً عليه بامتياز.

كان مصير نافع بن الأزرق القتل فى معركة نشبت بينه وبين مسلم بن عبيس، قتل فيها القائدان، ليحمل راية الأزارقة من بعده قطرى بن الفجاءة المازنى وكنيته «أبونعامة» (النعامة هو الاسم الذى أطلقه قطرى على فرسه). ظل «قطرى» يقاتل كل مَن يأتيه من جيوش، سواء بتوجيه من عبدالله بن الزبير فى مكة أو من الأمويين فى الشام، لكنه كان قائداً محنكاً تواصل صموده فى المعارك التى خاضها ضده واحد من أبرز القادة العسكريين فى التاريخ العربى، هو المهلب بن أبى صفرة. وظل «قطرى» يقاتل الزبيريين والأمويين ما يقرب من 13 عاماً كاملة، حتى انتهى به الأمر إلى القتل. وبعد مقتله انتهت أسطورة «الأزارقة» وتنظيمهم الذى دوّخ الدولة الأموية، وكذلك عبدالله بن الزبير سنين عدداً. وتبدأ قصة مقتل «قطرى» من نقطة الانشقاق التى تعد سمة أساسية من سمات التنظيمات الخارجية.

انتهى قطرى بن الفجاءة نهاية درامية، عندما حاول الهرب من جيوش الشام التى ما فتئت تطارده حتى لحقت به فى شعب طبرستان فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته إلى أسفل الشعب، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له «قطرى»: اسقنى الماء. فقال العلج: أعطنى شيئاً. فقال: ما معى إلا سلاحى وأنا أعطيكه إذا أتيتنى بالماء. فانطلق العلج حتى أشرف على «قطرى»، ثم حدر عليه حجراً من فوقه فأصاب ساقه فأوهنه، فصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، ولم يعرفه العلج، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته، فجاء إليه نفر من أهل الكوفة فقتلوه، منهم: سورة بن الحر التميمى، وجعفر بن عبدالرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذان مولاهم، وعمر بن أبى الصلت، وكل هؤلاء ادّعى قتله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف