جمال سلطان
حسابات المكاسب والخسائر في إلغاء اتفاقية إيران النووية
لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس بانسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران مفاجئا ، فقطاع كبير من ساسة العالم والإعلام الدولي كان يتوقعه ويتحسب له ، وجرت محاولات من قيادات أوربية رفيعة على مدار الأسبوعين الماضيين من أجل ثني ترامب عن قراره المنتظر ، ولكن انتهى هذا كله بلا فائدة ، وصدر القرار الأمريكي أمس وأحدث ضجة كبيرة ، وأثار مشاعر متناقضة في أكثر من بلد عربي وأجنبي ، ما بين محتفل بالقرار بوصفه يمثل ضغطا سياسيا واقتصاديا عنيفا على إيران يعطل عربدتها في المنطقة ، وما بين غاضب منه ، وهؤلاء الغاضبون قسمان ، قسم يرى أن القرار سيفتح المنطقة أمام حرب كبيرة قد تحرق الأخضر واليابس ، وقسم يرى أن القرار يمثل إضرارا فادحا بالمصالح الاقتصادية خاصة للمجموعة الأوربية ولتركيا .
كانت الاتفاقية والتي وقعها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد فتحت لإيران بابا واسعا من النفوذ في المنطقة ، بما استردته من عشرات المليارات من الدولارات ، ضخت كثيرا منها لمعاركها التوسعية والطائفية في المنطقة ، خاصة في سوريا ولبنان واليمن ، مما زاد سعير الحروب هناك على حساب الدم العربي والمصالح العربية ، كما منحها غطاء سياسيا وديبلوماسيا كبيرا أيضا ، لأن الولايات المتحدة وأوربا اتخذوا سياسة غض الطرف عن سلوكيات إيران العدوانية في المنطقة ، رغبة في الحفاظ على الاتفاقية وعدم تعريضها للاضطراب أو الشروخ ، وخشية أن تتهرب إيران منها ، وبطبيعة الحال كانت الدول العربية المشرقية هي الخاسر الأكبر من تلك الاتفاقية ، وهي التي تدفع ثمن التوسع الإيراني ومدد القوة الزائد ، سياسيا وماليا ، الذي منحته إياها الاتفاقية ، وتحملت السعودية العبء الأكبر في هذا التحدي ، لأنها البلد الخليج الأكبر والذي يتعرض لضغوط وتحرشات الإيرانيين في اليمن وفي لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي البحرين وحتى داخل المملكة نفسها ، وإن كانت بقية دول الخليج تأثرت بما في ذلك الإمارات التي تحتل إيران ثلاث جزر من أراضيها ، وقطر والبحرين والكويت .
الاتحاد الأوربي وبريطانيا كانوا في صدارة المعسكر الغاضب من قرار ترامب ، لأن اقتصادهم سيتعرض لخسائر فادحة ، نظرا لأن إيران أمضت معهم شراكات مالية ضخمة بعشرات المليارات في قطاعات صناعة الطيران والطاقة وغيرها ، وفي المعاناة التي يعانيها الاقتصاد في أكثر من بلد أوربي ، بما فيه بريطانيا وفرنسا ، فإن خسارة هذه الأموال والمشروعات يمثل عبئا كبيرا ومفاجئا .
أيضا ، تركيا اتخذت موقفا ناقدا للقرار ، رغم أن سياسة تركيا في المنطقة ضد التوسع الإيراني ، على المستوى السياسي والعسكري والطائفي ، ولكن لأن تركيا تمثل بوابة للاقتصاد الإيراني حتى أيام حصاره ، والكثير من امدادات الغاز التي تحرك المصانع وشبكة الكهرباء في تركيا تأتي من إيران ، والعلاقات البنكية متشابكة ومعقدة بين البلدين ، لذلك يمثل القرار ضررا اقتصاديا كبيرا لتركيا ، ويزيد من أهميته أنه يأتي في أجواء انتخابات مصيرية لأردوغان وحزبه الشهر المقابل وحيث تتعرض الليرة التركية لضغوط متزايدة .
إسرائيل المستفيد الأكبر من القرار بطبيعة الحال ، لأنه يمنحها تغطية سياسية وعسكرية لأي عملية خاطفة يمكن أن تقوم بها ضد المنشآت النووية الإيرانية ، على غرار ما فعلته مع صدام حسين بتدمير مشروعه النووي ، كما أنه سيتيح لها محاصرة الاحتلال الإيراني في سوريا والذي يعزز وجوده الآن بإنشاء قواعد عسكرية في أكثر من منطقة ويحلم بإتمام الممر البري الشيعي : بغداد ، دمشق ، بيروت ، والمؤكد أن إسرائيل ستقوم بغارات تأديبية وتدميرية للقواعد الإيرانية في سوريا ، غير أنه من المستبعد كثيرا أن تنشأ حرب بين الجانبين ، نظرا لتقاطع مصالحهما في المنطقة ، وإسرائيل غضت الطرف عمدا منذ البداية على تدفق القوات الإيرانية والسلاح الإيراني إلى سوريا ، لأنها كانت قلقة من الثورة السورية ومخرجاتها ، كما كانت قلقة من الربيع العربي كله ، في مصر وليبيا وتونس ، وبشار الأسد حفظ حدودها وأمنه بكفاءة طوال فترة حكمه فلم تتعرض "إسرائيل" لأي أعمال عدائية ولو طفيفة من الحدود السورية أبدا ، وإيران وحزب الله كانا يقومان بالدور الأهم في تدمير الثورة السورية وتحويلها إلى بحار دم .
أيضا ، إيران لا تملك جيشا مقاتلا صاحب خبرات قتالية ، وإنما مجموعات تدريب ودعم توظف خبراتهم لدعم خلاياها في سوريا ولبنان واليمن ، ولم تدخل حربا شاملة أبدا بشكل مباشر منذ انتهاء حرب الثماني سنوات مع العراق قبل أكثر من ثلاثين عاما ، كما أن مشاركاتها في الحرب على التنظيمات المتشددة في العراق وسوريا كان دائما تحت المظلة الأمريكية وبتنسيق كامل مع الخطط الأمريكية والسلاح الأمريكي الجوي والبري ، وإسرائيل متفوقة في جميع الجوانب ـ عسكريا ـ على إيران ، ولذلك ، وعلى الرغم من تعرض إيران لأكثر من ضربة مروعة في سوريا عبر الطيران الإسرائيلي وخسرت فيها عشرات من قادة الحرس الثوري ، إلا أنها عجزت عن أن ترد بأي عمل ولو رمزي ، لكنها قد تحاول افتعال أي تحرش مع السعودية لإرباك المنطقة وإرسال رسالة لواشنطن بأن قرارها توابعة وخيمة .
القرار الأمريكي وتوابعه في المنطقة والعالم سيمثل عامل ضغط على المجتمع الدولي للإسراع بإيجاد حل للقضية السورية ، لأنها السبب الأساس في أغلب تلك التطورات ، وما زالت هي مفتاح الخطر لأي انفجارات عسكرية كبيرة قد تحدث بين دول المنطقة بما يخرج عن السيطرة ، والحقيقة أن الشعب السوري دفع الكثير من دماء أبنائه ومقدراته وأحلامه بالحرية والكرامة ، على مذبح تقاطع المصالح
الاقتصادية للعالم "المتحضر" ، فباعوا الدم السوري رخيصا لطاغية مجرم دمر البلد وأباد مدنا بكاملها وأحرق الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز ، وقتل نصف مليون مواطن وشرد ثمانية ملايين منهم في أقطاب الأرض ، وفتح بلاده معسكرات وقواعد لقوى أجنبية متعددة ، وقد كان بإمكان المجتمع الدولي وقف هذه الإبادة من بداياتها وفرض تسويات سياسية على الجميع ، لكن المال ـ والمصلحة الإسرائيلية ـ كان أهم لديهم من تلك المسئوليات "الأخلاقية" حتى انتهت سوريا إلى ما انتهت إليه الآن .