د . محمد حسين ابو الحسن
كامبل يعود..«شىء ما» بالشرق الأوسط
بفعل فاعل، يجرى إشعال الحرائق فى الشرق الأوسط، كأن السلام والتنمية أمر «محرم» على شعوبها. الأسبوع الماضى أوقد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حريقا جديدا، بإعلانه الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، وهدد بأنها إن لم تتفاوض من جديد فإن «شيئا ما سيحدث»، فى تلويح بشن عمل عسكرى ضدها. رحبت إسرائيل بشدة بالخطوة الترامبية، وسار معها بعض العرب، ورفضها آخرون، ومنهم حلفاء واشنطن: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وقوى دولية كروسيا والصين. كرة النار المتدحرجة تكبر، وكل الاحتمالات واردة، بدءا من إمكان حدوث المعجزة بالعثور على «صيغة ما»، تلبى المطالب الأمريكية وتحفظ المصالح الإيرانية، إلى حرب طال انتظارها بين إسرائيل وإيران، ومن ورائهما حلفاء ومناصرون على أهبة الاستعداد بالنيران والأموال. ولو تحقق سيناريو الحرب، فإن مسرحها الرئيس سيكون دولا عربية، سوريا ولبنان والعراق واليمن والخليج، مما يفضى إلى دخول العرب تماما فى العباءة الأمريكية ـ الغربية، ويضمن انتزاع ترامب سبعة تريليونات دولار التى طلبها من العرب الأثرياء، استجابة لما يتصوره وصقور إدارته من «استعادة الهيمنة» الأمريكية على العالم، بعد أن بدأت مؤشرات الضعف تضرب أوصال القوة العظمى، واعتقادهم أن استنزاف أموال العرب يدفق الحيوية فى عروق الامبراطورية، ويقطع الطريق على المنافسين، خاصة الصين الصاعدة بسرعة صاروخية. الموقف الإيرانى كان صريحا ومعاندا، حذر الرئيس روحانى واشنطن من أنها ستكون أكبر خاسر وستندم «ندما تاريخيا»..وأنهم جاهزون لكل السيناريوهات واتخذوا الإجراءات المناسبة.
يصعب تبرئة طهران من المسئولية عن جانب من أزمات المنطقة، بسبب ارتدادات «المشروع التوسعى الإيرانى» فى الإقليم.. بينما يجد العرب أنفسهم عالقين فى مشهد كابوسى، يفوق روايات الرعب الكافكاوية، هيمنة أمريكية ـ غربية ومشاريع توسعية على أراضيهم وثرواتهم، إسرائيلية، تركية، إيرانية، إثيوبية، يحرص الجميع على استمرار الصراعات لا حسمها. بداعى الأمانة هذا المأزق ليس جديدا، إنما مخطط قديم متجدد، تجسده «وثيقة كامبل» عام 1905، نسبة إلى رئيس الوزراء البريطانى آنذاك هنرى كامبل بانرمان. وهى وثيقة خطيرة حملت تفاصيل وخططا لتدمير الدول العربية ووأد بذور النهضة وبث الفوضى وعدم الاستقرار فيها. وتعد «الأب الروحى» لاتفاقات تفتيت المنطقة: سايكس ـ بيكو عام 1916، وعد بلفور عام 1917، مؤتمر فرساي عام 1919، سيفر عام 1920، سان ريمو عام 1923، قيام إسرائيل 1947، العدوان الثلاثى 1956، إلخ.. عن طريق إغراق بلادنا فى صراعات لا تنطفئ، وإبقاء شعوبها مفككة جاهلة متأخرة، بهدف سلب ثرواتها وضخها فى القلب الصناعى للغرب. ذاك الواقع الذى يعيشه العرب منذ مائة عام أو أكثر ترجمة حرفية لوثيقة كامبل المختفية، ويترافق معها بعد آخر لا نلتفت إليه، لكنه لايقل خطورة، يتمثل فى أن الرأى العام الغربى يشهد تحولا جذريا صوب اليمين المتطرف، وكما اعتلى رجل فى رعونة ترامب سدة الحكم بالبيت الأبيض، يمكن أن يخرج هتلر جديد، أكثر الحكام الغربيين اليوم يمينيون محافظون، هذا معناه اتجاه متصلب نحو سياسات خارجية لا تكترث للقيم الإنسانية، انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، وحجب مخصصات «الأونروا» ورهن المعونات بسير الدول المتلقية فى الركب الأمريكى، .هذا التفكير نفسه هو الذى قاد من قبل دبلوماسية البوارج والمدافع وفرض الأمر الواقع، ومن ثمّ فإنه من السهل «خلق قضية، أو تفجير صراع ما» كالخروج من الاتفاق النووى ـ تحمل مواصفات الإقناع والذريعة الاقتصادية والتبرير السياسى، كى يتمكن الغرب من السيطرة على الشرق الأوسط، إننا إزاء عودة الاستعمار، ألا تنتشر القواعد العسكرية الغربية على الأراضى العربية، وتتضخم قوة إسرائيل ودورها، ويهرول بعضهم لاسترفاد رضاها على جثث أشقاء آخرين.
لقد سقط العرب برغبتهم فى فخ غربى محكم، لاخلاص لهم منه إلا باستنزاف ملياراتهم أوتريليوناتهم، على يد ترامب ونظرائه، السؤال هنا: ماذا لو أن جانبا من تلك الأموال ضخ لتنمية البلدان العربية وتعزيز مصادر قوتها؟ ألم يكن كافيا لإكسابهم قوة ذاتية تعجز واشنطن عن منحهم إياها، ألا يعطيهم حصانة تجبر الخصوم الإقليميين على احترام مصالحهم، بدلا من تلقيهم الإهانات العلنية والابتزاز مرة بعد مرة؟.. إن هذه الخطايا الكبرى تكشف عن تخبط العرب وحساباتهم الخاطئة وافتقادهم البوصلة السليمة، لذا عليهم أن يخجلوا..!
قال الزعيم الصينى «ماو تسى تونج»: «إذا وقعت فى حفرة، فعليك أن تتوقف عن الحفر».