الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
خالد محيى الدين وفقا لتعريف «الرجال مواقف»
برحيل خالد محيى الدين (1922-2018) لا يتبقى من تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بثورة يوليو 1952 سوى الذكرى والفكرة والتاريخ. كُتب وسيُكتب الكثير عن الراحل الكبير الذى لم يُقدّر لى شرف التقائه لكن طالما أسرتنى شخصيته بملمحين بارزين، أولهما تجسيده النموذجى لمقولة الرجال مواقف، والثانى موقفه ذاته من مقولة الغاية تبرر الوسيلة. كان جديراً بوصف «الثائر النبيل» بتاريخه النضالى المتفرّد بدءاً من العمل الثورى مع رفاق التنظيم، ثم موقف الدفاع عن المبدأ الديموقراطى لفترة قصيرة آثر بعدها الانسحاب فى صمت وكبرياء محترماً اختيار رفاق السلاح والثورة، ثم يحصل على استراحة محارب يبقى خلالها عدة سنوات فى سويسرا، ويعود إلى الوطن ليواصل (نضال الممكن) من خلال عضويته فى مجلس الأمة، ورئاسته لجريدتى المساء وأخبار اليوم. ثم تأسيسه فى عام 1976 حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، وهو اسم ذو مضمون أيديولوجى مدروس ومعبّر حينما نقارنه بعشرات الأسماء السطحية والطريفة التى تحتشد بها حياتنا الحزبية الافتراضية. دافع عن مواقفه بالسلوك والرأى حينما كان ذلك واجباً، وبالصمت البليغ حينما بدا ذلك مناسباً. وفى الحالتين لم يتزحزح.

ظلت نزعته اليسارية الماركسية إحدى ثوابته الأيديولوجية طوال عمره المديد برغم ما شهده العصر من متغيرات جارفة بلغت حد تفكك ما كان يُعرف سابقاً بالاتحاد السوفيتى ثم انهيار الأيديولوجية الشيوعية ذاتها. لكن خالد محيى الدين لم يرتد على انتمائه الفكرى والسياسى دون أن يمنعه هذا من التطور. ربما كان هو أحد القلائل فى الحياة السياسية المصرية ممن آمنوا نظرياً وأثبتوا عملياً أن الغاية لا تبرّر الوسيلة. تجلّى ذلك فى اللحظة الدقيقة الفاصلة التى كان عليه فيها أن يختار بين (غاية) تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى وبين (وسائل) نظام حكم غير تعددى بملامح شمولية.

ارتأى الرجل بنقاء فكرى وبصيرة وطنية أن هذه الغاية العظيمة التى من أجل تحقيقها قامت الثورة على يد رفاق وضعوا أرواحهم على أكفهم لا تبرّر اتباع وسائل غير ديمقراطية، وطالب فى شجاعة بعودة الضباط إلى ثكناتهم. أغلب الظن أن خالد محيى الدين كان قد قرأ كتاب السياسة لميكافيلى، لكن المثير للانتباه أنه وهو مناضل وسياسى بالأساس لم يتأثر بالمبدأ الميكافيلى الشهير من أن الغاية تبرر الوسيلة، إذ يبدو أن سمةً دفينةً ما فى شخصية الثائر النبيل كانت ترى على العكس أن الغايات تُقاس أيضاً بمشروعية وسائلها ليضعنا بذلك أمام سؤال عصيّ، قديم ومتجدّد، هل حقاً أن الغايات السامية تبرّر استخدام وسائل غير مشروعة؟

لا تنفصل إجابة السؤال السابق عن ملمح عميق آخر فى شخصية الثائر النبيل وهو سعيه المتواصل منذ اختلافه مع رفاقه القدامى إلى التوفيق بين الرؤى الإقصائية المتصارعة فى شأن النهوض بالوطن المصرى والتى ترى إحداها أن الأولوية هى للعدالة الاجتماعية ومواجهة الهيمنة الأجنبية بمشروع استقلال وطنى بينما ترى الأخرى أن الأولوية هى لإقامة مجتمع ديمقراطى تعددي. وانطلاقاً من هذا الملمح التصالحى الرافض للطروحات الإقصائية يمكننا فهم كيف أن رجلاً مثل خالد محيى الدين استطاع أن يؤمن بالعدالة الاجتماعية بجذور ماركسية والاستقلال الوطنى ومحاربة احتكار رأس المال جنباً إلى جنب مع إيمانه العميق بالديمقراطية والتعددية والحرية. ولهذا لم يكن غريباً أن يعطى اسم (التجمع) للحزب الذى أسّسه ليكون بحق (تجمعاً) لقوى ماركسية وقومية ويسارية شتى، ولعلّه كان الحزب الأكثر نخبوية فى حياتنا السياسية حتى أصابه ما أصابه. النزعة الماركسية أو بالأدنى الاشتراكية لدى خالد محيى الدين، وهى نزعة أممية بالأساس لم تمنعه أن يكون وطنياً مصرياً حتى النخاع، وهذا مظهر آخر فى دوائر انتماءاته المتآلفة غير الإقصائية. كان أقرب من وجهة نظرى إلى نموذج اليسار الديمقراطى المشبّع بروح إنسانية على الطريقة الإسكندنافية.

من يطالع كتاب الراحل الكبير «والآن أتكلم» أحد أكثر كتب السيرة الذاتية تجرداً وموضوعية فى التأريخ لثورة يوليو 1952 يكتشف كم اجتمعت فى شخص هذا الثائر النبيل صفاتٌ ومفارقات. ضابط وسيم فى سلاح الفرسان.. عضو فى جماعة الإخوان المسلمين فى عمر مبكر سرعان ما يهجرها ليصبح يسارياً بجذور ماركسية.. عقل نقدي.. صاحب موقف يتطوّر لكن لا يتلوّن. جمع هذه الصفات بغير نرجسية أو ادعاء احتكار الحقيقة. يقول فى صفحة 13 من كتابه «.. عندما أقرر أننى أذكر حقيقة ما حدث فإننى فى الواقع أقرر أننى أذكر رؤيتى لهذا الحدث، وكم من آخرين يمتلك كل منهم رؤية أخرى. فهل هناك أكثر من حقيقة؟ لا يعنى ذلك أن الجميع مخطئون وواحداً فقط هو الصواب، ولكنه يعنى أن الحدث الواحد يمتلك أكثر من بعد وأكثر من زاوية.. لست بهذا أنقص من جهد أحد ولا أدعى أن ما كتبته هو الحقيقة المصفّاة أو حتى الأقرب إليها. وإنما فقط أقرر أننى بذلت كل ما امتلكت من جهد لأنفى عن الكتابة أى نوازع شخصية محاولاً أن أُنصف الحدث والحقيقة دون التفات إلى إنصاف نفسي. تتضاءل أدوارنا عندما تُنسب أو تقاس إلى مصر...»

كانت هذه نوعية (وعينة) سياسى مصر الذين ولدوا فى الثلث الأول من القرن العشرين. ليس بوسعى أن أضيف بعد ذلك كلاماً آخر. ليس بوسعى سوى أن أردد نم قرير العين أيها الثائر النبيل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف