الأخبار
عبد الله البقالى
رسائل لمن يهمهم الأمر: تواري خيار الدم مقابل إرادة الوحدة «١-٢»

بقدر ما أرق التجاذب العنيف الذي تعيشه شبه الجزيرة الإيبيرية منذ شهور بسبب التصعيد الكبير لسكان منطقة كتالونيا في مطالبتهم الملحة باستقلال إقليم كتالونيا عن إسبانيا وتقرير مصير الشعب الكتالوني، وما خلفه هذا التجاذب من تداعيات قوية علي الأوضاع العامة في إسبانيا، حيث سخرت سلطات مدريد ما تملك وما لا تملك من وسائل وإمكانيات لوأد هذا الطموح الجارف، بما في ذلك استعمال العنف والاعتقال وجاهزية القضاء الإسباني في التفاعل السريع والفعال مع إرادة مدريد، وهي ردة الفعل التي لاقت مساندة قوية وسريعة من جميع الدول الأوروبية، التي وقفت بحزم في وجه مسعي تجزيء إسبانيا، وخلق دويلة صغيرة جديدة في أوروبا، وهو غير الحماس التي تبديه العواصم الأوروبية في محاولات التشتيت والتجزيء في مناطق أخري من العالم.
في خضم هذا التجاذب العنيف ألقت منظمة »إيتا»‬ الدموية حجرة كبيرة جدا في مياه النقاش الحاد الدائر هناك حول الوحدة الوطنية الإسبانية، بأن أعلنت في قرار مهدت له طوال السنين السابقة وطبخته علي نار هادئة، وهو القرار الذي أكدت فيه وضعها للسلاح وحل نفسها والانخراط في إرادة الحرص علي حماية الوحدة الإسبانية في ظل النظام الدستوري الإسباني القائم، والذي أسعد الشعب الإسباني ووجه رسائل قوية إلي الرأي العام الأوروبي، وإلي الرأي العام في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
»‬إيتا» تعلن إذن عن نهاية سعيدة لآخر مظاهر وأشكال التمرد المسلح في القارة الأوروبية، بعد حوالي ستين سنة من العمل المسلح خلف أكثر من 826 قتيلا، قادتهم الأقدار إلي الأمكنة الخاطئة في المواعيد الخاطئة وآلاف الجرحي والمعطوبين، الذين يمثلون عناوين بارزة لتاريخ ملطخ بالدماء لدواع سياسية صرفة.
ونتذكر اليوم أن البداية كانت في 31 يوليو من سنة 1959 حينما نظم مجموعة من الطلبة الغاضبين مؤتمر »‬دير بييوك »‬ في منطقة الباسك الواقعة علي الحدود الإسبانية الفرنسية، وأعلنوا عن تأسيس »‬منظمة وطن الباسك والحرية» التي عرفت اختصارا بمنظمة »‬إيتا»، وأكدوا في بيانهم الصادر عن المؤتمر علي »‬اعتماد العمل السري والثوري عبر الكفاح المسلح بهدف التحرير القومي لمنطقة الباسك، والتي تضم ثلاث مقاطعات إسبانية ومقاطعتين فرنسيتين» وأسسوا عقيدتهم علي ثلاثة مرتكزات، أولها الدفاع عن اللغة المحلية والعرق الباسكي، وثانيها معاداة الهوية الإسبانية ومقاومتها، وثالثها العمل علي استقلال بلاد الباسك التي تمتد بين الترابين الإسباني والفرنسي. وما أن انتهت من تنظيم نفسها حتي أعلنت عن خروجها المسلح العلني ونفذت سلسلة عمليات إرهابية أخذت منحي تصاعديا خطيرا أرق الإسبان، بدأت بعملية 18 يوليو 1961، حيث استهدفت قطارا كان يقل فريقا مهما من أنصار الجنرال فرانشيسكو فرانكو الذي حكم إسبانيا بقبضة الحديد والنار، وتواصلت بعمليتين نوعيتين نجحت في أولاهما، عام 1968 في اغتيال مدير مكتب المخابرات الإسبانية في مدينة سان سيباستيان (و من الصدف الماكرة في هذه القصة أنها نفس المدينة التي ستعلن منها حركة إيتا عن حل نفسها قبل أسابيع قليلة خلت)، قبل أن تنجح في عملية نوعية كبيرة في اغتيال رئيس الوزراء الإسباني آنذاك السيد لويس كاريرو بلانكو سنة 1973 في قلب العاصمة الإسبانية مدريد، وواصلت التصعيد بأن قامت بسلسلة كبيرة من التفجيرات في العاصمة نفسها وجهت من خلالها رسائل واضحة بأنها تمكنت من التغلغل، وحتي من تحقيق اختراقات أمنية واستخباراتية، ووصلت في ذلك إلي أعلي مستوي بأن تمكنت من نصب كمين إرهابي للملك الإسباني خوان كارلوس سنة 1991 والذي نجا منه بأعجوبة، ووصلت مداها سنة 2001 بأن قامت بتنفيذ 16 عملية إرهابية في سنة واحدة.
ربما تكون منظمة »‬إيتا» أدركت من خلال النتائج المحصلة من العمل المسلح أنها غير كافية ولا مجدية، وهذا ما قد يبرر إنشاءها في سنة 1978 لجناحها السياسي الذي عرف باسم »‬ هري باتاسونا »‬ لمد جسور للتواصل السياسي وتوفير آلية للتفاوض مع سلطات مدريد، لذلك عرفت السنوات اللاحقة حركة مد وجزر بين العمل السياسي ونظيره المسلح، حيث ما كانت المفاوضات السرية في الغالبية منها تنتهي إلي الباب المسدود حتي كانت منظمة »‬إيتا» تعود إلي خيار التصعيد في العمل المسلح بما يحقق الضغط والابتزاز. وهو الخيار الذي لم ينتج غير مزيد من الدماء واليأس لدي قادة »‬إيتا» بعد أن تعاملت السلطات الفرنسية والإسبانية بحزم من خلال مواصلة ملاحقة قادة المنظمة واعتقال كثير منهم، إلي أن بدأت المنظومة برمتها في التهالك.
وللحديث بقية
• نقيب الصحفيين المغاربة


تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف