الأهرام
محمد سلماوى
لم نحارب الإرهاب.. بل تصدينا لجرائمه
هل صحيح أن الحكومة فى ميزانيتها الجديدة المعروضة الآن على مجلس النواب قامت بتخفيض ميزانية وزارة الثقافة بدرجة غير مسبوقة؟ لقد أخبرنى أحد النواب أن الميزانية المخصصة لمشروع مكتبة الأسرة على سبيل المثال قد تم إلغاؤها بشكل شبه كامل، فهل هذا صحيح؟ وهل هذا مقبول؟ لقد انتهت لجان المجلس المتخصصة من مناقشة مختلف جوانب الميزانية، كل فى تخصصه، تمهيدا لعرض الميزانية برمتها على المجلس لإقرارها، لكنى أستشعر الخطر القادم فيما لو أقر المجلس الميزانية كما هي، ففى ذلك إعلان ضمنى من الحكومة بالتخلى عن محاربة الإرهاب الذى دفعت مصر ثمنا باهظا طوال السنوات الماضية فى مقاومة جرائمه، دفعت دم أبنائها الأبرياء وتحملت نتائج قطع مواردهم السياحية والمعيشية، وعانت غياب الاستقرار والشعور بالأمان.

قد كنت أتصور بعد النجاح الذى حققناه فى السنوات القليلة الماضية فى محاصرة تلك الظاهرة من الناحية الأمنية، أنه قد آن الأوان لنتنبه لأهمية التصدى للمنابع الفكرية لها حتى نقضى عليها تماما، لا أن نتخلى عن أسلحتنا فى المعركة الفكرية التى لا تقل أهميتها عن المعركة الأمنية، فنترك للظاهرة المجال لتستعيد عافيتها وتواصل تفريخ المزيد من العناصر المضللة التى لم تجد من يقدم لها فكرا آخر غير ما تشربته كالإسفنجة الجافة من فكر التعصب والإرهاب.

وحين أقول إننا حققنا نجاحا فى معركتنا الأمنية ضد الإرهاب فعلينا أن نعى أن نجاحنا كان منصبا على جرائم الإرهاب فقط وليس على الإرهاب نفسه، فجرائم الإرهاب يتم التصدى لها بالسلاح وبالقانون، وقد أدى السلاح واجبه بشرف وببسالة، سواء على أيدى أبناء جيش مصر العظيم الذى اعتبر حربه ضد الإرهاب حربا مقدسة دافع فيها عن تراب الوطن وسلامته كما دافع فى الحرب التقليدية على مدى تاريخه، أو على أيدى أبناء الشرطة الذين تصدوا بشجاعة للجرائم الخسيسة التى استهدفت أبناء هذا الوطن ومنشآته الوطنية، وفى الحالتين سالت دماء أولائك وهؤلاء شهداء زينوا صدر الأمة كأوسمة الفخر البراقة، فى الوقت الذى قام القضاء بواجبه فى ملاحقة تلك الجرائم التى ارتكبت فى حق الوطن.

على أن كل هذا الجهد كان موجها كما قلت، للتصدى لجرائم الإرهاب وليس للإرهاب نفسه، فالإرهاب يقوم على فكر منحرف تم زرعه فى عقول ونفوس العناصر المغرر بها والتى تم تجنيدها لارتكاب تلك الجرائم، والفكر لا يقاوم بالسلاح ولا بالقانون، وانما بالفكر والثقافة والأدب والفن، فالسلاح فى هذه المعركة لا يكون المسدس أو المدفع أو القنبلة، وانما الكتاب والفيلم والمقطوعة الموسيقية، وهى جميعا أسلحة أهملتها الدولة على مدى عقود سابقة فتركت الساحة خاوية أمام الفكر البديل القائم على التطرف والتعصب والطائفية.

وإنى أعجب كيف طوال تلك السنين اكتفينا بالتصدى لجرائم الإرهاب ولن نتنبه لضرورة وضع خطة قومية شاملة تضم وزارات الثقافة والتعليم والتعليم العالى والشباب والرياضة والتضامن والمجلس الأعلى للصحافة والإعلام، يكون هدفها التصدى لفكر الإرهاب عن طريق الوصول الى عقول البشر، تلك العقول التى تركت طويلا غنيمة لدعاة التطرف والسلفية والانحراف، وفى مثل هذه الخطة يكون الكتاب قبل غيره هو سلاح المواجهة.

لقد نص الدستور فى المادة 48 من الفصل الثالث الذى يحمل عنوان «المقومات الثقافية» على أن «الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه، وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب»، وهذا هو الطريق السليم لمقاومة الفكر المنحرف الذى يؤدى الى الإرهاب، لكن اتاحة المنتج الثقافى الكفيل بالتصدى للارهاب كان يصطدم دائما بحاجز يحول دون وصوله الى المتلقي، هنا تأتى أهمية مشروع «مكتبة الأسرة» الذى نجح فى التغلب على العقبة الرئيسية التى كانت تحد من تأثير الكتاب بما يحويه من فكر وثقافة ومعرفة، وهى ارتفاع سعره، بالدعم الذى كانت توليه له الدولة، لقد ظللنا سنوات نعتمد على مناسبة سنوية واحدة هى معرض الكتاب لكى يتمكن المواطن العادى من اقتناء الكتاب بسعر فى متناول يده، لكن بفضل مشروع «مكتبة الأسرة» الذى امتد على مدى السنة تمكنت أعداد كبيرة من القراء تحصى الآن بالملايين، من التعرف خلال السنوات الماضية على فكر كبار العقول المصرية والعالمية فى مختلف مجالات المعرفة، وعلينا اليوم أن نزيد من فاعلية هذا المشروع ونعمل على توسيع نطاقه تحقيقا لهذا الهدف وتطبيقا للدستور، وذلك بأن نضاعف من ميزانيته لا أن نلغيها لنترك الساحة الفكرية خالية أمام الإرهاب الذى نحاربه.

إن تراجع ظاهرة الإرهاب فى الآونة الأخيرة بسبب نجاحنا فى التصدى لها بالسلاح وبتقديم مجرميها للعدالة، لا يعنى أننا قضينا على الإرهاب فى العقول لأن ما يؤثر فى العقول ليس هو السلاح أو الأحكام القضائية، وانما الفكر التنويرى الذى ينفذ الى العقول ويعمل على تشكيل الوجدان، وبهذا المعنى أستطيع القول أنه فى الوقت الذى نجحنا فى مواجهة جرائم الإرهاب فإننا لم نبدأ بعد معركة التصدى للإرهاب نفسه، وبإلغاء برنامج مكتبة الأسرة أو تقليصه نكون قد تخلينا عن سلاحنا الأول فى تلك المعركة.

إننى أناشد جميع أعضاء مجلس النواب التنبه لهذا الخطر والإصرار على قيام الحكومة فى ميزانيتها الجديدة برعاية برنامج »مكتبة الأسرة« وزيادة الدعم المخصص له، ذلك إذا كنا جادين حقا فى محاربة الإرهاب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف