التحرير
سلوى الحمامصى
أوليفيا
التقيت بها فى دولة إفريقية، عندها اجتمعت كل أمارات الصبر والتفاؤل والبشاشة والطيبة والذكاء، تلك هى، رغم أن الزمن رفض إلا أن يترك بصماته عليها، وعلى جسدها بمرض أصاب عظامها.
كنت أريد أن أتعرف بأكبر قدر من السيدات المقيمات بالبلد كى أكون صداقات جديدة، كان كل من أتعرف بهن فى نادى المرأة الدولية يسألننى إن كنت قد تعرفت بأوليفيا، أخذت رقم هاتفها من إحداهن ودعوتها للشاى مع بعض الصديقات الجديدات ببيتى، تبين لى من صوتها أنها قد جاوزت الثمانين، قالت إنها ستحاول قدر جهدها أن تحضر، وقد كان.
فتحت الباب فإذا بامرأة مسنة قصيرة القامة، مثلثة الوجه بشوشة، تستقبلنى بابتسامة، تخفى يدها اليمنى بإيشارب طويل يلتف حول عنقها وتمد اليسرى لتصافحنى مرحبة بى فى زامبيا قائلة: كان من المفروض أن تكون هذه الدعوة فى بيتى أولا.. جلست أحدثها وعرفت أنها فى زامبيا منذ نحو خمسين عاما، ولما حاولت معرفة قصتها ضحكت وأردفت بصوت خفيض مبحوح: إنها قصة طويلة.
بعد عدة أسابيع، تلقينا دعوة منها للغداء فى بيتها صبيحة عيد القيامة المجيد، كانت تسكن فى بيت كبير فى ضواحى العاصمة الإفريقية، كانت واقفة تستقبل الضيوف عند باب الحديقة، ترتكز بيدها اليسرى على عصاها وتدارى اليد اليمنى بإيشارب ينسدل على يدها التى أحدث بها المرض بعض الاعوجاج.. تترك العصا الثابتة على الأرض بثلاث أرجل وتمد اليد اليسرى لمصافحة الضيوف، تدعونا للجلوس فى الحديقة تحادثنا قليلا ثم تعاود الوقوف انتظارا للقادمين، أدعوها للجلوس فتجيبنى أنها تفضل الوقوف، وأنها ستشعر بالكسل إذا جلست، كسل!! فما بال كثير منا يشعر بالكسل وهم أصبَى منها وأصغر.
كلمة قالتها لى فى أول لقاء فى بيتى عندما همت بالاستئذان مبكرا، قالت لى إنها متعبة، ورغم ذلك ضغطت على نفسها للحضور، قالت لى: إذا قلت لنفسك إنك لا تستطيعين فعل شىء فستستمع إليك نفسك ولن تستطيعى أن تفعلى شيئا. دائما تحاول الاعتماد على نفسها فى أى حركة، تجاذبنا أطراف الحديث تقول عن نفسها إنها إفريقية، من أصل يونانى، ولدت فى مصر، ونشأت فى السودان، وهناك التقت بزوجها اليونانى واستمرا فى حياتهما هناك ثم انتقلا إلى جنوب إفريقيا بعد قيام ثورة بالسودان وتم طرد الأجانب، والاستيلاء على ثرواتهم، قالت: هل تعلمين ماذا يعنى أن أذهب إلى مكان جديد مع زوجى ونحن لا نملك شيئا؟
ولكن الحمد لله، وجد زوجى رحمه الله عملا هناك، كان مهندسا بارعا، والحمد لله بدأنا من جديد وبنينا أنفسنا مرة ثانية، كنت أرعى أولادى وأذاكر لهم... كبرنا وكبر معنا نجاحنا فاشترينا هذه المزرعة التى نجلس فى جزء منها وشركة لتنقية المياه.. سأكمل بعد ذلك.. ألم أقل إن قصتى طويلة.. راقبت كيف تحنو الابنة الكبرى على أمها وتربت على كتفيها، تنظر بإعجاب إليها وهى تفخر بأن أمها أشرفت على صنع الطعام ليخرج كما تحب، كيف يحيطها الأحفاد ويقبلونها كل حين.. أعجبنى ذلك الاحترام الكبير الذى يكنه لها الابن الأكبر وهو ينحنى عليها كل حين يستأذنها فى ما يقدم من أصناف الطعام وكيف ومتى يقدم، أثارت إعجابى أكثر عندما نهضت من مقعدها ولفت على الضيوف واحدا واحدا لتهمس لهم إن كانوا يحتاجون شيئا، ثم اتجهت إلى طاولة صغيرة يلتف حولها الأحفاد وأصدقاؤهم وهى تهزر معهم وتشاكسهم بتعليقاتها الذكية ثم تسألهم هل أكلتم جيدا؟ تنظر إلى ابنتها الكبرى وتشير إلىَّ بيدها، ما تفهم منه ألا تنسى تسجيل الحدث بكاميرا الفيديو، كما اعتادت دائما أوليفيا أن تسجل ذكرياتها الجميلة.
أول انطباع
دعوتها لنا
حب أبنائها لها
حبها لضيوفها وترحيبها بهم
قصتها طويلة
ولدت فى مصر




تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف