جمال سلطان
رسائل تذكرة المترو إلى الرئيس والنظام
ما جرى من بوادر غضب بعد رفع أسعار تذاكر مترو الأنفاق بصورة مبالغ فيها للغاية ، وصلت من جنيهين إلى سبعة جنيهات للخط الأطول ، واضطرار الدولة إلى إنزال قوات الأمن في محطات المترو للسيطرة على الوضع المتوتر ، والتحوط من أي انفلات ، يكشف عن أزمة حقيقية في طريقة إدارة شؤون البلاد ، وخاصة أنه لا يبدو أمامك رؤية متكاملة لاتخاذ القرار ، فقد التقى الرئيس السيسي برئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي قبل ثلاثة أيام وطالبهم ـ حسب ما نشر بالصحف القومية ـ بالتخفيف عن أصحاب الدخل المحدود ورفع الأعباء عنهم ، وفي اليوم التالي كانت الحكومة تصدر قرار رفع أسعار المترو الذي كسر ظهر أصحاب الدخل المحدود ، فكأن اجتماع الرئيس في واد والحكومة في واد آخر ، والبلد الآن متوترة بالفعل ، وقد اضطر الرئيس إلى اطلاق دعوة للحوار مع الشعب عبر صفحات التواصل الاجتماعي ، تحت عنوان "اسأل الرئيس" ، والتواصل الاجتماعي أداة شعبية مهمة بلا شك ، لكنها ليست بديلا عن المؤسسات السياسية ، بما فيها الأحزاب والنقابات ، والدولة تدار من خلال المؤسسات الدستورية وليس من خلال صفحات التواصل الاجتماعي ، وكان أولى أن تكون هناك سلسلة لقاءات للرئيس مع الأحزاب والنقابات والجامعات وقياداتها وكوادرها الرفيعة ، حتى لو كانت لقاءات مغلقة وغير مذاعة ، المهم أن يكون الحوار موجودا ، والمؤكد أن الرئيس سيسمع أفكارا وتصورات تنير له طرقا وبدائل ، وتفتح له آفاقا ربما لم يكن مدركا لها بفعل زحام الأحداث والمسئوليات ، كما أن الكفاءات المتحررة من قيود المنصب أكثر صراحة وجرأة في الحديث مع الرئيس ، فهو سيسمع منها الآراء التي يتحرج مساعدوه ـ غالبا ـ من مصارحته بها .
الضرورة السياسية ، ومصلحة الرئيس نفسه ، ومصلحة النظام كله ، أن تكون هناك سياسة ، وحوار سياسي ، وآفاق منفتحة في هذا المجال ، وتقليل اللجوء إلى العصا الأمنية لأقصى مدى ، لأن هذا هو ما يقلل من احتمالات الصدام والانفلات الشعبي ، كما يقلل من الحاجة إلى استخدام أدوات القمع والسيطرة بكل أشكالها وما تخلفه من مرارات تعقد الأمور أكثر وتشحن النفوس بالغضب أكثر ، عزلة الرئيس وراء الميكروفونات وفي اللقاءات المغلقة مع شباب منتقى بعناية أمنية خاصة لن تفيد ، وستحرم رئاسة الجمهورية من إمكانات هائلة لصناعة الأفكار والبدائل ، وستجعله مضطرا بصفة دائمة إلى حمل العصا والسلاح ، هناك كوادر سياسية محترمة في الأحزاب على ضعف الأحزاب ، وهناك كوادر علمية رفيعة في النقابات الكبرى ، وهناك عقول كبيرة ومخلصة في الجامعات المصرية ، ابحث عن هؤلاء والتق بهم وتحاور معهم بصفة منتظمة ، وهم من النوع الذي لا يطلب منك جزاء ولا شكورا ، يريدون أن يقدموا نصيحتهم لوجه الله ثم لوجه الوطن .
السيسي أمامه سنوات صعبة للغاية ، وشديدة الخطورة ، خاصة في ظل الضغط الاقتصادي وجمود مسارات التنمية أو ضعفها ، وهو ما يدفعه باستمرار واستعجال إلى الحل السهل وهو رفع الأسعار ، غير أن رفعها له انعكاسات خطيرة سياسية وشعبية وأمنية ، وتوالي الضغوط يقرب المجتمع من الانفجار ، وليس من الحكمة أن تعمل السلطة ، أي سلطة ، بأسلوب اختبار مدى صبر الناس ، لأنها مغامرة ليست دائما مأمونة العواقب ، كما أن هناك استحقاقات دستورية من المؤكد أنها تشغل الرئيس والأجهزة الصلبة أيضا ، ولها حساسيات شديدة في موضوعها وفي طريقة الدخول إليها وفي أي أفكار للتغيير أو التعديل وفي حجم هذا التعديل وما يشمله وما يتركه ، حسابات معقدة وخطرة ، وهي آتية لا محالة ، أضف إلى ذلك التحدي الأمني الذي تمثله جماعات إرهابية شديدة الخطورة ، صحيح هي تحت السيطرة والضربات المتوالية ، لكن استمرارها يستنزف الدولة والنظام ، كذلك هناك تغييرات إقليمية عميقة وخطيرة أيضا ستحدث قريبا في المنطقة وفي أكثر من ملف ترتبط به مصر وتتأثر به بدرجة كبيرة ، في فلسطين أولا ، وفي ليبيا وسوريا أيضا ، حيث من المتوقع أن تمثل نهاية العام الحالي نهاية أوضاع وميلاد أوضاع سياسية مختلفة كليا ، وكلاهما سيؤثر على مصر مباشرة وقد يضغط على مصالحها بقوة ، أضف إلى ذلك معضلة الانقسام الوطني المتنامية منذ 30 يونيه 2013 ، والتي تجعل أي مراقب للبلد يراها بلدين بالفعل ، وشعبين ، وهذا مدمر لأي قدرة على النهوض أو التنمية أو حتى تطبيع الأمن والاستقرار في البلاد .
في ظل هذه التطورات والتحديات ، لا يصلح لبلد بحجم مصر أن تمارس السياسة الداخلية والخارجية من خلال فكر ومشاعر وإرادة شخص واحد ، ولا حتى مؤسسة واحدة ، فهل يمكن أن نحلم بأفكار جديدة في مؤسسة الرئاسة ، خاصة في عهدها الجديد بعد شهر ونيف من الآن ، تفتح صفحة جديدة في إدارة شؤون البلاد ، أكثر انفتاحا وقدرة على الحوار والتواصل مع مكونات الوطن المختلفة .