الوطن
د . ابراهيم السايح
اشتراكية النكد
معظم الناس يتناولون إفطارهم وسحورهم طوال شهر رمضان أمام شاشات التليفزيون الذى يتخصص ويتفرغ طوال الشهر الكريم لتقديم إعلانات تستغرق كل وقت الإرسال اليومى فى كل القنوات تقريباً، وحتى لا يشعر الناس بالملل تقوم كل قناة باختلاس عدة دقائق من وقت الإعلانات وتعرض خلالها مشهداً أو اثنين من أحد المسلسلات الدرامية، ويستمر عرض المسلسل الواحد فى بعض القنوات لساعتين أو أكثر، رغم أن المشاهد المعروضة منه فى الحلقة لا تزيد على عشرين دقيقة فى أفضل الأحوال تصحبها مائة دقيقة من الإعلانات، ولن تنتهى هذه الظاهرة إلا لو حاول التليفزيون إقناع الشركات المعلنة وشركات الإنتاج الدرامى بضم الإعلانات فى السياق الفنى لكل مسلسل، بحيث يقوم البطل -مثلاً- بتناول «جبنة» معينة، ويقول إنها لذيذة جداً أثناء حديثه مع ممثل آخر فى سياق الأحداث، وتقوم البطلة باستخدام نوع من السمن، وتتحدث مع زوجها وأولادها حول طعامته ومميزاته (إلخ إلخ)!

التليفزيون لا يكتفى بنكد الإعلانات التى تحرم المشاهد من متابعة أى مسلسل إلا لو استقال من كل أعماله ومشاغله وقبع طوال الليل والنهار أمام جهاز التليفزيون لاصطياد مشاهد حلقة كاملة من براثن الإعلانات، ولكن الأسوأ من هذه الظاهرة مجموعة البرامج بالغة العبط التى تحرص بعض القنوات على عرضها كل عام وتقدم فيها مقالب وأشياء فى غاية السخف ويشارك فيها للأسف عدد كبير من نجوم الفن والرياضة الذين يتنازلون عن كرامتهم ومكانتهم مقابل الأجر الذى يتقاضاه كل منهم نظير البهدلة والإهانة والتهريج الأحمق الغبى.

الحسنة الوحيدة لإعلانات التليفزيون فى شهر رمضان هى الطابع الاشتراكى فى توزيع النكد على الفقراء والأغنياء.

إخواننا الأثرياء يقدم لهم التليفزيون كل يوم ساعات طويلة من الإعلانات التى يظهر فيها مرضى سرطان الأطفال، ومرضى سرطان الكبار ومرضى الفشل الكلوى ومرضى الإعاقات المزمنة ومرضى الإعاقات الطارئة ومرضى التوحد ومستعمرات الجذام (إلخ.. إلخ..إلخ) وفى كل يوم وليلة يتعايش الناس مع هذه المشاعر المؤلمة دون أن يتوقف فاسد عن الفساد أو لص عن السرقة أو ظالم عن الظلم أو طاغية عن استخدام جبروته وسطوته فى إيذاء الناس.

لا أحد يطالب بإيقاف حملات التبرع للأعمال الخيرية وعلاج كل الفقراء المصابين بأمراض خطيرة أو مزمنة أو حتى عادية، ولكن إقناع أهل الخير بالمشاركة فى التكافل الاجتماعى لعلاج المرضى أو إعالة الأيتام أو مساعدة الفقراء والمعدمين لا يحتاج كل هذا الإلحاح فى عرض مشاهد المرضى والمحتاجين ومشاهد نجوم الفن والرياضة الذين يذهبون لزيارتهم ومداعبتهم أمام الكاميرات، ثم يذهب كل منهم إلى حال سبيله ويظل المريض مريضاً والنجم نجماً.

هناك وسائل أخرى لإقناع الناس بالتبرع للأعمال الخيرية دون الاستعراض اليومى على مدار الساعة فى كل القنوات لصور الأطفال الذين يصارعون المرض، والأيتام الذين يصارعون الجوع (إلخ).. وهناك كثيرون من أهل الخير يرفضون المشاركة فى هذه الحملات التليفزيونية ويفضلون التبرع المباشر للجهات التى لا تملك ثمن الإعلانات الباهظة التى تفضح الضحايا أمام مصر كلها بدلاً من الإحسان إليهم لوجه الله تعالى.

هذا النوع من النكد التليفزيونى الرمضانى اليومى مخصص للأغنياء الذين لا يشعرون بآلام ومعاناة الآخرين ويملك كل منهم إمكانيات المساهمة فى حملات التبرع الرمضانية التليفزيونية العملاقة.

أما النكد المخصص للفقراء فتجده فى إعلانات أخرى تشرح لك مزايا المنتجع الصيفى والشتوى، ومواصفات الكومباوند الذى ينقلك للحياة فى جنة الله على الأرض، وأنواع السيراميك الحالم الراقص الذى لا يكتمل الرخاء ولا تتحقق الرفاهية دون وجوده فى المنزل أو الفيلا، وإمكانيات خرافية فى موديل جديد من سيارات الدفع الرباعى التى يصل ثمنها إلى ملايين الجنيهات، ورحلات سياحية لأجمل بقاع الأرض داخل وخارج القطر المصرى، ووجبات الإفطار والسحور الفاخرة فى شتى الفنادق والمطاعم ذات النجوم السبع، وجولات أحمد عز وكدوانى التى يروجان فيها لأى شىء يستحيل وصول الفقراء إليه، هذا إلى جانب برامج «الشيفات» التى يقدم فيها التليفزيون عبر كل القنوات استعراضاً يومياً لكل أنواع الأطعمة القديمة والجديدة التى تجبر بعض الناس على الشعور بالامتعاض الشديد من الفول والكشرى والمسقعة والطبيخ «الأورديحى» وسائر الأطعمة «الفقايرى» الأخرى.

إعلانات التليفزيون تلخص الحالة المصرية دون الحاجة للكلام فى السياسة أو الاقتصاد، ناس هايصة فى المنتجعات والكومباوندات، وناس لايصة فى سرطان الأطفال وسرطان الفقر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف